زياد الرحباني: الفنان المتمرد الذي جسّد ثورات لبنان وأحلامه

ADVERTISEMENT

زياد الرحباني ليس مجرد موسيقي، بل هو قوة ثقافية، ومُحرض، ومؤرخ لروح لبنان. وُلد عام 1956 للمطربة اللبنانية الأسطورية فيروز والملحن عاصي الرحباني، وورث إرثًا موسيقيًا عريقًا. ولكن بدلًا من أن يسير على خطى عائلته، شقّ طريقه الخاص، مازجًا بين السخرية والجاز والتعليق السياسي في أعمال فنية أسرت قلوب الأجيال. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، برز الرحباني كصوت للمقاومة والتأمل خلال أكثر سنوات لبنان اضطرابًا. وأصبحت مؤلفاته ومسرحياته وعروضه بمثابة مرآة للمجتمع - تارة ساخرة، وتارة حزينة، لكنها دائمًا ما تُحدث صدىً عميقًا. تحدى الأعراف، وتساءل عن السلطة، وعبّر عن إحباطات المواطنين اللبنانيين العاديين، لا سيما خلال سنوات الحرب الأهلية. تكمن عبقرية زياد في قدرته على دمج الأنماط الموسيقية الغربية كالجاز والفانك والموسيقى الكلاسيكية مع الألحان والإيقاعات العربية، ليخلق بذلك صوتًا خاصًا به لا لبس فيه. كلمات أغانيه - التي غالبًا ما تكون مشبعة بالسخرية والذكاء والعاطفة الصادقة - تخاطب جوهر التعقيدات الاجتماعية والسياسية في لبنان. في منطقة غالبًا ما يكون فيها التعبير الفني مقيدًا، جعلته جرأته مثيرًا للجدل ومحبوبًا في آن واحد. لم يتردد الرحباني في السياسة أيضًا. بصفته يساريًا معلنًا وناقدًا للطائفية، استخدم فنه لتحدي الوضع الراهن. وغالبًا ما عكست أعماله ميوله الماركسية، وازدرائه للفساد، وتعاطفه مع الطبقة العاملة. وبذلك، أصبح أكثر من مجرد فنان، بل صوتًا لمن لا صوت لهم.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Novalib2 على wikipedia

المسرح كاحتجاج: هجاء في ظل الحرب

تُعدّ أعمال زياد الرحباني المسرحية مؤثرة بقدر موسيقاه. إذ قدّمت مسرحياته، التي كُتبت وعُرضت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، هجاءً لاذعًا وتعليقًا مؤثرًا على الفوضى التي تجتاح البلاد. ومن خلال الفكاهة والعبثية، حلل الرحباني تناقضات المجتمع اللبناني - الطائفية، والفساد، والتدخل الأجنبي، وخيبة أمل الطبقة الوسطى. لقد عُرضت إحدى أشهر مسرحياته، "بالنسبة لبكرة شو؟" (ماذا عن الغد؟) لأول مرة عام 1978، ولا تزال تُعتبر عملًا كلاسيكيًا محبوبًا. تروي المسرحية قصة صاحب مقهى مُحبط وزبائنه غريبي الأطوار، مُجسّدةً اليأس الوجودي وعبثية الحياة في زمن الحرب. حوار المسرحية، المُشبع باللهجة اللبنانية العامية، جعلها في متناول الجمهور وتفاعله، بينما لاقت مواضيعها، التي تتمحور حول اليأس والصمود، صدىً لدى الجماهير في جميع أنحاء البلاد. وواصلت أعمال أخرى بارزة، مثل "فيلم أمريكي طويل"، و"شي فاشل"، و"نزل السرور"، هذا التقليد من التمرد المسرحي. اتسمت شخصيات الرحباني غالبًا بالعيوب، والسخرية، والعمق الإنساني - انعكاسات لمجتمع يتصارع مع الهوية والبقاء. وقد سمح له استخدامه للفكاهة السوداء والسريالية بنقد هياكل السلطة دون وعظ، مما جعل مسرحياته مسلية ومتمردة في آن واحد. ولم تكن هذه الإنتاجات مجرد تعبيرات فنية - بل كانت أعمال تحدٍّ. في بلد مزقته الحرب والصراع الطائفي، وفّر مسرح الرحباني مساحة للتأمل والضحك والتنفيس. امتلأت القاعات بالجمهور ليس فقط للترفيه، بل ليشعروا بأنهم مرئيون ومسموعون. أصبحت مسرحياته تجارب جماعية، حيث واجه الناس مخاوفهم وإحباطاتهم من خلال عدسة السخرية.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Fairouz Productions على wikipedia

موسيقى تصويرية لأمة: موسيقى تنطق بالحق

موسيقى زياد الرحباني مزيجٌ متحديٌ للأنواع الموسيقية من الجاز، والعربية الكلاسيكية، والفانك، والأغاني الاحتجاجية. تتميز مؤلفاته بثراء نسيجها ومشاعرها، وغالبًا ما تتميز بتوزيعات موسيقية معقدة وتحولات غير متوقعة في النغمة. لكن كلماته هي ما يميزه حقًا - فهي صريحة، وشاعرية، ومشحونة سياسيًا. أغانٍ مثل أنا مش كافر وبالنسبة لبكرة شو تعكس مواضيع الاغتراب، والإيمان، والتحدي. في البوسطة، يرسم الرحباني صورةً حيةً لرحلة بالحافلة عبر بيروت، مجسدًا فوضى المدينة وسحرها على حد سواء. تُظهر تعاوناته مع فيروز، بما في ذلك معلمتي وحبيتك تنسى النوم، جانبًا أكثر رومانسيةً وتأملًا، مما يُثبت تنوعه كملحن. وغالبًا ما تتميز موسيقى الرحباني بمقاطع غنائية، ومؤثرات صوتية، وارتجال - عناصر مستعارة من موسيقى الجاز والمسرح. وهذا النهج التجريبي يجعل ألبوماته تبدو وكأنها رحلات صوتية عبر نفسية لبنان. تُعرف عروضه الحية، التي غالبًا ما تُقام في أماكن حميمة، بعفويتها وكثافتها العاطفية. وإلى جانب الترفيه، كانت موسيقى الرحباني بمثابة شكل من أشكال المقاومة. فقد انتقد النخب السياسية والقوى الأجنبية والنفاق المجتمعي علنًا، وحظي بالإعجاب وردود الفعل العنيفة على حد سواء. ومع ذلك، لم يتزعزع التزامه بالصدق والنزاهة الفنية أبدًا، مما جعله منارةً لأولئك الذين يؤمنون بقدرة الفن على إحداث التغيير. غالبًا ما تكون كلمات أغانيه شخصية للغاية، تعكس صراعاته الشخصية مع الهوية والأيديولوجيا والحب. لكنها تخاطب أيضًا تجارب جماعية - من حرب ونزوح وشوق. بهذه الطريقة، تتجاوز موسيقى الرحباني الحدود الشخصية لتصبح عالمية، تتردد أصداؤها لدى المستمعين عبر الأجيال والحدود.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة غير معروف على wikipedia

إرث وتأثير: صوت لا يزال يتردد

إن أثر زياد الرحباني على الثقافة اللبنانية لا يُحصى. فقد أعاد تعريف معنى أن تكون فنانًا في زمن الأزمات، مستخدمًا الفكاهة والموسيقى ورواية القصص للتغلب على تعقيدات الهوية والسياسة والبقاء. ولا تزال أعماله تُلهم أجيالًا جديدة من الموسيقيين وكتاب المسرحيات والمفكرين في جميع أنحاء العالم العربي. في السنوات الأخيرة، ظل الرحباني نشيطًا، يُقدم عروضًا من حين لآخر ويُصدر أعمالًا جديدة. تكشف مقابلاته - التي غالبًا ما تكون صريحة، وفلسفية، واستفزازية - عن رجل لا يزال منخرطًا بعمق في مصير لبنان. ورغم مواجهته للرقابة، والجدل، والتحديات الشخصية، إلا أن شعبيته لا تزال قائمة، لا سيما بين الشباب الباحثين عن الأصالة والعمق في رموزهم الثقافية. إن إرث الرحباني ليس فنيًا فحسب، بل فلسفيًا أيضًا. لقد علّم الجمهور التساؤل، والضحك في وجه اليأس، وإيجاد الجمال في الانكسار. إن رفضه للتوافق، وتبنيه للتناقض، وحبه الراسخ للبنان، كل ذلك يجعله رمزًا للمقاومة الإبداعية. وفي بلد لا يزال يعاني من الانهيار الاقتصادي، والشلل السياسي، والاضطرابات الاجتماعية، لا يزال صوت زياد الرحباني مؤثرًا كعادته. تتردد ألحانه في أزقة بيروت، وكلماته تتردد في المقاهي والفصول الدراسية، وروحه حية في كل فنان يجرؤ على قول الحقيقة للسلطة. إن فهم زياد الرحباني يعني فهم لبنان - ليس كمكان فحسب، بل كشعور. إذ يجسّد عمله حزن القلب وفكاهته، والفوضى والإبداع، واليأس والتحدي، وهي سمات تُميّز التجربة اللبنانية. كان، وسيظلّ، الفنان المتمرد الذي حوّل الاضطراب إلى فنّ والأحلام إلى صوت.

أكثر المقالات

toTop