يخطط العلماء لإطلاق مركبة فضائية بحجم رقاقة تعمل بالليزر باتجاه ثقب أسود قريب والانتظار لمدة 100 عام حتى ترسل إشارة إلى الأرض

ADVERTISEMENT

في عالم استكشاف الفضاء، تبدو بعض الأفكار أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى الحقائق العلمية. لكن عددًا متزايدًا من الفيزيائيين والمهندسين يفكرون بجدية في واحدة من أجرأ المهمات التي تم تصورها على الإطلاق: إطلاق مركبة فضائية بحجم رقاقة تعمل بالليزر باتجاه ثقب أسود قريب - والانتظار لمدة قرن حتى ترسل إشارة إلى الأرض. يهدف هذا المفهوم، المتجذر في مبادرة Breakthrough Starshot والمستوحى من التقدم في تكنولوجيا النانو والفوتونيات، إلى دفع حدود السفر بين النجوم. الفكرة بسيطة من الناحية النظرية ولكنها مذهلة في طموحها: بناء مركبة فضائية لا يزيد حجمها عن طابع بريدي، وتزويدها بأجهزة استشعار وأدوات اتصال، وتسريعها إلى جزء كبير من سرعة الضوء باستخدام ليزر قوي قائم على الأرض. وجهتها؟ ثقب أسود قريب - ربما Sagittarius A*، الثقب الأسود الهائل في مركز مجرتنا، أو ثقب أسود أقرب ذو كتلة نجمية مثل V616 Monocerotis. الهدف ليس الدوران حول الأرض أو الهبوط عليها، بل التحليق فوقها، وجمع بيانات عن مجالات الجاذبية والإشعاع وتشوهات الزمكان، وإرسال المعلومات إلى الأرض. لكن المفاجأة؟ سيستغرق وصول الإشارة عقودًا، وقد تمتد المهمة نفسها إلى قرن من الزمان. هذا ليس مجرد تحدٍّ تكنولوجي، بل هو تحدٍّ فلسفي. إنه يطلب من البشرية الالتزام بمشروع سيعمر أطول من مُبتكريه، ويتطلب الصبر والبصيرة والإيمان العميق بقيمة المعرفة.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Aman Pal على unsplash

العلم وراء المسبار بحجم الشريحة

في قلب هذه المهمة تكمن أعجوبة التصغير: "الشريحة النجمية". ستحمل هذه المركبة الفضائية الصغيرة، التي لا يتجاوز وزنها بضعة غرامات، كاميرات وأجهزة استشعار ومصدر طاقة ونظام اتصال ليزري. يُعد حجمها الصغير مفتاحًا لتحقيق التسارع اللازم، فالمركبات الفضائية الأكبر حجمًا تتطلب طاقة أكبر بكثير. لدفع الشريحة، يقترح العلماء استخدام مجموعة هائلة من أشعة الليزر الأرضية، تُعرف باسم نظام "الشراع الضوئي". ستركز هذه الليزرات أشعة على شراع عاكس متصل بالرقاقة، مما يدفعها للأمام بالفوتونات. إذا نجحت، يمكن أن تصل الرقاقة إلى سرعات تصل إلى 20٪ من سرعة الضوء - وهي سرعة كافية للوصول إلى ثقب أسود قريب في عقود بدلاً من آلاف السنين. لكن الرحلة ليست سوى نصف التحدي. يجب أن تنجو الرقاقة من الإشعاع المكثف والغبار الكوني والتشوهات الجاذبية بالقرب من الثقب الأسود. يجب أن تكون أيضًا قادرة على جمع بيانات ذات مغزى ونقلها عبر مسافات شاسعة. يستكشف المهندسون أساليب الاتصال الكمي والهوائيات فائقة الكفاءة وأنظمة الذكاء الاصطناعي المستقلة لضمان قدرة الرقاقة على العمل بشكل مستقل وذكي. ستكون المهمة أيضًا بمثابة منصة اختبار للفيزياء النسبية. فعندما تقترب الرقاقة من الثقب الأسود، ستواجه تمددًا زمنيًا شديدًا وعدسة جاذبية، وربما حتى تباطؤًا في الإطار - وهي ظواهر تنبأت بها النسبية العامة لأينشتاين ولكن نادرًا ما تُلاحظ بشكل مباشر. يمكن أن يُحدث التقاط هذه التأثيرات ثورة في فهمنا للجاذبية والزمكان وطبيعة الثقوب السوداء.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة NASA Hubble Space Telescope على unsplash

الانتظار قرنًا - لعبة العلم الطويلة

لعلّ الجانب الأعمق في هذه المهمة هو جدولها الزمني. من الإطلاق إلى عودة الإشارة، قد تستغرق العملية برمتها مئة عام أو أكثر. وهذا يتطلب تحولًا جذريًا في نظرتنا للتقدم العلمي. تعمل معظم المهمات الفضائية وفق جداول زمنية تمتد لأشهر أو سنوات. أما هذه المهمة فتتطلب منا التفكير في أجيال. آن تأخر الإشارة وحده أمرٌ مُرهق. حتى لو وصلت الشريحة إلى هدفها خلال 20-30 عامًا، فإن البيانات التي تُرسلها ستستغرق عقودًا للوصول إلى الأرض. لن يرى علماء اليوم النتائج أبدًا. بدلًا من ذلك، سيزرعون بذورًا لباحثي المستقبل، واثقين بأن المعرفة ستُحفظ وتُفسر وتُقدّر من قِبل الأجيال القادمة. تُحاكي هذه الرؤية بعيدة المدى مساعي علمية ضخمة أخرى - مثل بناء الكاتدرائيات، أو إرسال رسائل بين النجوم، أو بناء مصادمات الجسيمات. إنها شهادة على قدرة البشرية على الفضول الذي يتجاوز الفائدة المباشرة. كما أنها تثير أسئلة أخلاقية ولوجستية: من يُحافظ على البنية التحتية؟ كيف نضمن الاستمرارية في ظل التحولات السياسية والثقافية؟ ماذا سيحدث إذا تغيرت الأرض نفسها بشكل جذري في هذه الأثناء؟ ومع ذلك، فإن مجرد الالتزام بمثل هذه المهمة قد يُلهم حقبة جديدة من الإدارة العلمية. سيتطلب ذلك أرشفة متينة، وتعاونًا بين الأجيال، وشعورًا مشتركًا بالهدف. في عالم غالبًا ما تُحركه أهداف قصيرة المدى، يمكن أن يصبح هذا المشروع رمزًا للطموح الإنساني الدائم.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة NASA Hubble Space Telescope على unsplash

ما يمكن أن نتعلمه من التحليق بالقرب من ثقب أسود

تُعدّ الثقوب السوداء من بين أكثر الأجسام غموضًا وتطرفًا في الكون. فهي تُشوّه الزمكان، وتُصدر إشعاعات قوية، وتُشكّل تحديًا لفهمنا للفيزياء. يُمكن لمسبار بحجم رقاقة يُحلق بالقرب من ثقب أسود أن يكشف أسرارًا لا يُمكن لأي تلسكوب أو مُحاكاة كشفها بالكامل. إن أحد مجالات الاهتمام الرئيسية هو أفق الحدث - الحد الذي لا يُمكن لأي شيء تجاوزه. مع أن الرقاقة لن تعبره، إلا أنها يُمكنها أن تُحلق بالقرب الكافي لرصد سلوك المادة بالقرب من هذه العتبة. يُمكنها دراسة أقراص التراكم، والحقول المغناطيسية، والنفثات النسبية - وهي ظواهر تُشكّل المجرات وتؤثر على التطور الكوني. هدف آخر هو إشعاع هوكينج، وهو الانبعاث النظري للجسيمات من الثقوب السوداء بسبب التأثيرات الكمومية. إن اكتشاف هذا الإشعاع أو تقييده سيكون له آثار عميقة على الجاذبية الكمومية ومصير الثقوب السوداء. يمكن للمسبار أيضًا اختبار حدود النسبية العامة، والبحث عن الانحرافات أو الشذوذ التي تشير إلى فيزياء جديدة. وحتى الرحلة نفسها ستسفر عن رؤى ثاقبة. من خلال السفر بسرعات نسبية، ستختبر الشريحة الوقت بشكل مختلف، مما يوفر اختبارًا حقيقيًا لتمدد الوقت. يمكنها أيضًا رسم خريطة للفضاء بين النجوم، واكتشاف تفاعلات المادة المظلمة، وتحسين نماذج الغبار الكوني والإشعاع. في النهاية، لا تتعلق المهمة بالثقوب السوداء فحسب - بل تتعلق بتجاوز حدود ما هو ممكن. إنها تتعلق بطرح أسئلة جريئة، واحتضان عدم اليقين، والجرأة على استكشاف أعمق زوايا الكون بأصغر الأدوات.

أكثر المقالات

toTop