في أعماق الصحراء الكبرى، حيث تتماوج الكثبان الرملية وتُرسم الطرق بالرياح، تقف مدينتا شنقيط ووادان شامختين، تحكيان قصص قوافل قديمة، وعلماء، وتجار، ومكتبات تفيض بالمعرفة. هاتان المدينتان ليستا مجرد وجهتين سياحيتين، بل بوابتان إلى ماضٍ عريق يشهد على ازدهار الحضارة الإسلامية في غرب إفريقيا.
عرض النقاط الرئيسية
لمن يعشقون السياحة الثقافية في موريتانيا، ويبحثون عن تجارب أصيلة تنبض بالتاريخ والطبيعة، فإن زيارة شنقيط ووادان تُعد خيارًا مثاليًا. في هذا المقال، نصحبك في جولة ممتدة بين الحجر والرمل، بين المدونة والمخطوطة، وبين الماضي والحاضر.
تقع شنقيط في ولاية آدرار، شمال موريتانيا، على سفح هضبة أدْرار، وتُعد من أقدم وأهم المدن التاريخية في البلاد. تأسست في القرن العاشر الميلادي، وكانت محطة رئيسية على طريق القوافل التي تربط بين المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء.
قراءة مقترحة
الطبيعة هنا مهيبة، تجمع بين صخور الهضاب الجافة وكثبان الرمال الذهبية، في مشهد يثير التأمل والدهشة. في هذه البيئة القاسية، نشأت مدينة ازدهرت بالعلم والدين والتجارة.
يمتاز طراز البناء التقليدي في شنقيط بالبساطة والأصالة. تُبنى البيوت من الحجارة المحلية والطين، وتُزخرف الأبواب والنوافذ بخشب النخيل المحفور يدويًا. من أبرز ما يُلفت النظر هو المسجد العتيق، الذي يعود إلى القرن الثالث عشر، بقبابه المنخفضة ومئذنته الحجرية التي تُعد من رموز المدينة.
أشهر ما يُميز شنقيط هو احتضانها لعدد من المكتبات العائلية التي تضم آلاف المخطوطات القديمة، بعضها مكتوب على جلود الغزال أو أوراق النخيل. تتناول هذه المخطوطات مواضيع متنوعة من فقه وأدب وطب وفلك وتاريخ.
زيارتك لإحدى هذه المكتبات تُعد تجربة نادرة؛ إذ يمكنك لمس التاريخ بيدك، والتعرف على طرق حفظ المخطوطات في بيئة صحراوية جافة. لا تفوّت فرصة الحديث مع أحفاد الأسر التي ورثت هذه الكتب جيلاً بعد جيل.
تأسست وادان في القرن الثاني عشر الميلادي، وكانت مركزًا علميًا وتجاريًا مهمًا، خاصة خلال عصر ازدهار الدولة المرابطية. اختارها العلماء والتجار لقربها من طرق القوافل، مما جعلها محطة ثقافية نابضة بالحياة.
اليوم، تُعد وادان من أبرز معالم موريتانيا الأثرية، وتُصنفها اليونسكو كموقع تراث عالمي ضمن سجل المدن القديمة الموريتانية.
عند دخولك وادان، يبهرك مشهد المدينة القديمة المبنية على منحدرات صخرية، حيث تتراءى لك بيوت حجرية مهجورة، ما زالت تحتفظ برونقها المعماري رغم تقادم الزمن. لا تزال الأزقة الضيقة المرصوفة بالأحجار تحكي بصمت عن زمن كانت فيه وادان مدينة للعلماء والمجالس الفقهية.
يمكنك رؤية الحصن القديم، الذي كان يُستخدم لمراقبة الصحراء المحيطة، والعديد من الأبراج الحجرية التي كانت تُستخدم للدفاع أو للتخزين.
كما هو الحال في شنقيط، احتفظت وادان بميراثها العلمي من خلال مكتباتها الخاصة التي تضم مخطوطات في علوم الدين واللغة والمنطق والفلك. زيارة هذه المكتبات تُشبه رحلة إلى القرون الوسطى، حيث كانت الكلمة هي السلطة والعلم هو مفتاح المجد.
رغم التشابه في الطابع الصحراوي والتاريخ العلمي، لكل مدينة طابعها الخاص:
كلاهما يشكلان جزءًا أساسيًا من هوية موريتانيا الثقافية، ويستحقان مكانة بارزة في برامج السياحة الثقافية في موريتانيا.
تشهد مدينة شنقيط مهرجانًا ثقافيًا كبيرًا يُقام كل عامين، يجمع بين العروض الشعبية، والندوات الفكرية، والمعارض الحرفية، وسباقات الجمال. في هذا المهرجان، تُعاد الحياة إلى المدينة القديمة، وتُعرض المأكولات التقليدية والموسيقى الموريتانية الأصيلة.
أما في وادان، فتنظم زيارات ميدانية ومسارات سياحية موجهة للمهتمين بالتاريخ والأنثروبولوجيا، حيث يتم تسليط الضوء على الحياة اليومية التي كانت تسود هذه المدينة العريقة.
الطريق إلى هاتين المدينتين ليس سهلًا، ولكنه يستحق كل جهد:
إذا كنت من محبي السفر الباحثين عن تجارب ثقافية عميقة بعيدًا عن الوجهات السياحية التقليدية، فإن زيارة شنقيط ووادان ستُثري رحلتك بالتاريخ والهدوء والجمال الطبيعي. في هاتين المدينتين، يتقاطع الصمت الصحراوي مع أصوات الماضي المحفوظة في جدران الطين ورفوف المخطوطات.
يمكنك أن تمشي على درب القوافل القديمة، أن تلتقط الصور عند أبواب المنازل المزخرفة، أن تُصغي لحكايات السكان عن أجدادهم العلماء والتجار، وأن تُدرك كم يحمل هذا المكان من معانٍ تتجاوز المكان والزمان.
رغم أن موريتانيا لا تزال بعيدة عن الأضواء العالمية للسياحة، فإن مدنًا مثل شنقيط ووادان تُشكل دررًا نادرة في قلب الصحراء. هنا، تُحكى القصص بالحجارة، وتُكتب المعرفة على جلود الغزال، وتُزرع الذكريات في رمال تعود إلى آلاف السنين.
شنقيط ووادان ليستا فقط من معالم موريتانيا الأثرية، بل شاهدتان على حضارةٍ عريقة ما زالت تنبض بين أطلالها. السفر إليهما رحلة إلى قلب إفريقيا الإسلامية، وتجربة ثقافية مميزة لعشاق التاريخ والترحال.
