البصمة التراثية الإسلامية في القصر العباسي ببغداد
لأكثر من 800 سنة ..ومرورًا بأصعب الفترات في التاريخ وأكثرها حبسًا للأنفاس في تاريخ الشرق الأوسط عامةً والعراق خاصّةً.. مازال ذلك البناء الخلاب يقف شاهدًا على إحدى أزهى عصور الحكم في بغداد .. على ضفاف نهر دجلة الضارب في القدم ... تجد ذلك القصر الشامخ يحكي عن عصور ما قد مضت ويسطر بين أركانه حكايات عن أبطال وأحداث لم تكن من العالم العربي والإسلامي ببعيد . هنا قصر بغداد العباسي .. أجمل قصور بني العباس بلا منازع.
البداية
تم الانتهاء من بناء هذا المبنى البديع في عام 163 هجرية بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور ، وسمّاه حينها "قصر السلام" ، وكانت مقرًا لإقامته، وتحدث بعض الأثريين بأن القصر كان في مرحلةٍ من المراحل التاريخية مدرسة للتشابه بين واجهته وطراز المدرسة المستنصرية.
يمثّل الطراز المعماري في القصر العباسي ببغداد قمة الزخرفة الإسلامية لذلك العصر حيث تميّز باحتوائه على زخارف مصنوعة بحرفيّةٍ عاليةٍ تدعو للإعجاب وقلّ أن تجد مثلها في أي مكان آخر سواءً ببغداد أو خارجها.
القصر العباسي من الداخل
تحتوي الباحة الداخلية للقصر العباسي على نافورة مركزية تعمل بطريقة فيزيائية مميزة ، ويمكنك أن ترى الزخارف الدقيقة المنتشرة على الجدران الداخلية للساحة والتي تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ خلايا النحل لما تحتوي عليه من نقوشاتٍ دقيقةٍ وتماثلٍ يدعو للدهشة والإعجاب، ومن الجدير بالذكر أن تلك النقوشات قد تمت صناعتها من الطين المفخور أو الطين المشوي.
توجد داخل القصر العباسي ما يربو على 40 غرفة تتوزع على دورين، ومن المثير للإعجاب أن القصر في الشتاء يكون دافئًا وفي الصيف يكون باردًا، في إشارةٍ إلى اهتمام المصممين بتوفير أعلى وسائل الراحة في ذلك الزمن، كما نلاحظ أيضًا عدم تماثل الغرف الذي نتج عن عدم تساوي الأضلاع المكونة للقصر مما جعل لكل مجموعة من الغرف طابعًا وبصمةً خاصةً.
البصمة التراثية المميزة للقصر العباسي
يرى كثير من الباحثين في التراث العباسي أن القصر العباسي ببغداد وزخارفه لا مثيل لها من حيث اجتماع فن حق الطين مع فنون النقش والنحت الذي يماثل تجاويف خلايا النحل مما أعطى للجدران رونقًا خاصًّا لا تجد له شبيهًا بأي معلم سياحي آخر سواءً في بغداد أو خارجها ، مما جعلها من الأماكن السياحية المميزة التي يتوق الزائرون لرؤيتها والتمتع بمناظرها خلال زيارتهم لمدينة بغداد.
يأتي العديد من السياح لزيارة القصر العباسي ببغداد لشدّة تميّزه ووجود بعض الشبه بين واجهته وبين الطراز المعماري المستخدم في بناء المدرسة المستنصرية، لكن هناك بعض السمات التي تميّز بها القصر العباسي عن أي مبنى آخر، وذلك أن أركانه كانت مؤمَّنةً بما يشير إلى أنه كان مجهّزًا لحماية وتأمين الخليفة وإقامته فيه، فلم يكن قصرًا عاديًّا ، بل كان قصرًا شديد التأمين ومزود بأعلى وسائل التحصين في زمنه.
كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله أول اتخذ من ذلك القصر مقرًّا للحكم، وكان القصر العباسي في ذلك الوقت رمزًا للوجدة ونبذ الخلافات والتعصب بين المذهاب المختلفة ، فكان عصر الخليفة الناصر لدين الله أول قصرٍ يدخل فيه الحنابلة إلى المناصب بالرغم من انتماء الخليفة للمذهب الشافعي مما دفع بالحال في مختلف أرجاء الدولة اعباسيية إلى التصالح والتقارب ونبذ الفُرقة، كما كان القصر العباسي رمزًا للمقاومة والنضال حيث دعم الخليفة الناصر صلاح الدين الأيوبي بالمال والعتاد وأمر كل ولاته بتقديم الدعم اللازم له في حرب تحرير القدس من أيدي الصليبيين كما دعمه ضد حركات التمرد التي قامت بها طائفة الحشاشين.
وظل القصر العباسي ببغداد محتفظًا بأهميته التاريخية في عصر الدولة العثمانية حيث اتخذته مقرًّا عسكريًّا وأطلقت عليه "البارود خانة" لما له من خصائص دفاعية مميزة، كما أن الملك فيصل قد تم تتويجه في باحة القصر العباسي في عام 1953 كإشارة على استمرارية الحكم الملكي وارتباطه النظام الحاكم بتراثه وتمسّكه بمبادئ الوحدة ونبذ الفُرقة. كما أن النظام الجمهوري قام بمحاكمة رموز النظم الملكي في القاعة الصفراء بداخل القصر العباسي في عام 1958 لتأكيد أحقيتهم بالحكم واستمدادًا لشرعيتهم وإظهارًا لفخرهم بالماضي العظيم الذي قل أن تجد مثله في مدينة من مدن العالم.