أرض ظفار الخياليّة.. منشأ اللُّبان
أرضٌ خضراء في أقصى جنوب جزيرة العرب، يكسوها الضباب وتتمتع بجوٍّ مميزٍ، تطل على ساحل بحر العرب، ومازال العرب يأتونها ليتمتعوا بنسميها العليل، وكانت قبل أربعة آلاف وخمسمئة عامٍ مركزًا للقوافل التجارية البرية والبحرية تنقل اللّبان والبخور والمنتجات العربية الأخرى عبر طريقٍ ربط الشرق بالغرب والجزيرة العربية بما حولها من حضاراتٍ وامبراطورياتٍ عظيمةٍ في بلاد ما بين النهرين والهند والصين والشام والنيل وأوربا، حيث قطعت تلك القوافل مسافاتٍ زادت عن 15 ألف كيلومتر، وكان مركز انطلاق تلك السفن من مدينةٍ ساحليةٍ مطلّةٍ على المحيط الهندي تُسمى "سمهرم" وتقع في ولاية "طاقة" بأرض "ظفار" بمملكة عُمان والتي أبهرت الملكة "حتشبسوت" من الأسرة الفرعونية الثامنة عشر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد لتقيم فيها، ويقال أن الهدية التي قدمتها الملكة العربية "سبأ" إلى نبي الله سليمان أحضرتها من ذلك الميناء الواقع بتلك المدينة، ولها أسماءٌ أخرى مثل "موشا" و"موجا" و"بونت"، ويسمونها أهلها الآن باسم "خور روري" وهي مسجلةٌ اليوم في قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
الشجرة الحزينة
"عُرفت في التاريخ بأنها الشجرة الحزينة .. البوسويليا، شجرة تخرج ثمرتها من جذوعها وأغصانها، تذرف الدموع إن جُرحت، دموعًا ناصعة البياض تتحدّر كأنها قطرات لؤلؤ".. كانت هذه كلمات أحد أشهر المؤرخين الرومانيين "بلينيوس الأكبر" حينما سُئل عن اللُبان العماني ، وقال أن سكان ظفار أصبحوا فاحشي الثراء بفضل ذلك المنتج العجيب .. اللُّبان. في رحلة اللُبان العُمانية يتوقف الزمن في ذلك الميناء التاريخي الذي يحكي تاريخ 7000 سنة في منتزه "البليد" الأثري حيث أُقيم متحفٌ أثريٌّ تم افتتاحه عام 2007 م ليوضح استقبال سفن طرق الحرير القادمة من الصين وسفن البهارات القادمة من الهند ليبيعوا ما لديهم للعرب ويشترون ما لدى العرب من لُبان وذهب ونحاس ولؤلؤ ومرجان وغيرها من المنتجات.
ما هو اللٌّبان؟
تُطلق هذه الكلمة على السائل الأبيض الذي يخرج من شجرة "اللبان" أو "البوسويليا" حين جرحها بأداةٍ حادّةٍ، ويُسمى أيضًا لبن الشجر، وهي مادةٌ صبغيةٌ تُستخرَج من شجر "البوسويليا" وتُستخدم كبخورٍ لما لها من رائحةٍ زكيّةٍ عندما تحترق، كما أنها تُستخدَم في بعض الوصفات الطبية، وكانت تجارة البخور أحد أعمدة التجارة لمملكة "حضرموت" القديمة لذلك سُميت بـ"مملكة اللبان والبخور" حيث كان البخور يلقى إقبالًا من شتى أنحاء العالم.
اللبان في كتب المؤرخين
عن اللبان كتب مؤرخون ورحالة كثر أشهرهم "سترابو" و"هيرودوت"، قالوا عنه أنه ثروة عثر عليها في جنوب الجزيرة العربية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحديد موطنها حتى أشاع بعضهم أن موطنه أسطوري. آلاف السنين مضت ومصدر اللبان يحيطه الغموض لحين وصول الجراح "كارتر: في منتصف القرن التاسع عشر ليثبت أن "ظفار" هي موطن اللبان أو كما كان يسمى في الماضي .. الذهب الأبيض.
طريق اللبان والبخور
لا يمكن تسميته فقط بالطريق حيث تداخلت فيه العديد من اللغات والحضارات والمهارات الفنية واجمتعت عليه الديانات والعادات والأساطير، حيث يتعرف الإنسان على الآخر وعلى ذاته، عرف التاريخ أربعة موانئ تجارة هي الأهم والأشهر على ساحل ظفار العماني، أولهم ميناء "البليد" الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من 4000 عام، وصفه "ماركو بولو" و"ابن بطوطة" بأنه يوجد بمدينة "البليد" التي كانت مركزًا حيويًا للتجارة في ذلك الزمان على طريق الحرير البحري كما يطلق عليه والذي كان يصل بين الشرق والغرب في الماضي، وكان ميناؤ البليد على شكل جزيرة محاطة بالماء من كل النواحي وتأتي السفن الكبيرة ترسو بالقرب منها ثم ترسل السفن الصغيرة إلى الجزيرة للتبادل التجاري. وثاني ميناء هو سمهرم الذي سبق الحديث عنه، أما الميناء الثالث فهو "حاسك"، وكلها موانئ على ساحل بحر العرب كانت تستقبل السفن الآتية من الصين والهند لتبادل البضائع من شتى أنحاء العالم.
في عام 1930 اكتشف الرحالة الإنجليزي "برترام توماس" موقع مدينة البليد القديمة إلا أن التنقيبات فيها لم تبدأ إلا بعد 22 عاما من اكتشافها، وعلى أرض البليد اجتمعت الشعوب عابرة البحار والمحيطات، فالتنقيبات في تلك المدينة لم تكشف عن كل أسرارها، فتحت حجارتها المرجانية وغرفها الضيقة تمكث حكايا عمرها آلاف السنين.
فوائد اللبان
أثبتت الدراسات تواجد الكورتيزن الطبيعي بداخل اللبان والذي يعطي فعالية أفضل بكثير من الكورتيزون الصناعي الذي له بعض الأعراض الجانبية، وقالت العرب عنه قديمًا أنه مقوٍّ للقلب والدماغ ويمنع النسيان وسوء الفهم، ويقضي على أعراض السعال وآلام الصدر ويحسّن من وظائف الكلى ويساعد على التغلب على الهزال، كما أن الفراعنة كانوا يستخدمونه لطرد الأرواح الشريرة وعلاج المس، واستخدمه الصينيون والهنود في الطقوس الدينية. توجد العديد من الأدوية المستحدثة التي تعتمد في مكوناتها على استخلاص الكورتيزون الطبيعي من اللبان.
أنواع اللبان
توجد أربعة أنواعٍ من اللبان المستخرج من جبال ظفار، أقلهم جودةً هو الشعبي ثم النجدي ثم الشزري ثم الحوجري وهو أجود الأنواع ويتميز باللون الأحمر، وله فوائد علاجيةٌ كثيرةٌ، لذا تستخدم الأنواع الأخرى كبخورٍ أما الحوجري فله درجات ويستخدم في الاستخدامات الطبية بصورةٍ أكثر.
ثار تحكي قصص الماضي
ذهب التجار وذهبت السفن وبقيت البليد بآثارها على ساحل ظفار التي كانت تستقبل التجار من شتى أنحاء العالم القديم بعيونٍ متلهفةٍ لوصول الأشرعة والسواري لتحمل قصصًا من الماضي عن نفوذٍ وسلطةٍ كانت لأهل تلك المنطقة من الجزيرة العربية لتستحق عن جدارة لقب أرض العرب الخيالية.