تمثالا مِمْنون العظيمان :عملاقا الزمن وصدى التاريخ

ADVERTISEMENT

يقف تمثالا ممْنون الشاهقان على الضفة الغربية لنهر النيل مقابل مدينة الأقصر (اسم المدينة القديمة طيبة)، كرمزين باقيين للحضارة المصرية القديمة. صُنع هذان التمثالان منذ نحو 3400 عام، أي في حوالي 1350 ق.م، خلال حكم الفرعون أمنحتب الثالث من الأسرة الثامنة عشرة. على الرغم من عوامل الزمن القاسية كالشمس الحارقة والفيضانات والزلازل  وعمليات سرقة أجزاء من معبد الدفن، إلا إن هذين التمثالين هما أحدا أبرز الأيقونات السياحية والأثرية في مصر.

🛕 الأصل والمعنى

أنشئت التماثيل العملاقة لمرافقة معبد الدفن الرئيسي لفرعون أمنحتب الثالث، وقد صُممت لتقف في بواباته كحارسين صامتين. كل تمثال منحوت من قطعة واحدة أو عدة كتل ضخمة من حجر الكوارتزايت، استُخرجت من محاجر الجبل الأحمر قرب القاهرة، بما يقارب 675 كم نقلًا بريًا فوق الصحراء، ثم وضعت بدقة بمسافة ~18 مترًا فوق قاعدة حجرية بارتفاع 4 أمتار، لتصل في النهاية إلى حوالي 18 مترًا بوزن يقدّر بـ720 طنًّا لكل منها .

ADVERTISEMENT

تقف التماثيل جالسة على عرشها، وممدّة يداها نحو ركبتيها، وموجهة بنظرتها نحو الشرق باتجاه نهر النيل ومملكته الأبدية. على مقدمة العرش منحوتة صور صغيرة لأفراد الأسرة الملكية، بما في ذلك زوجته الملكة تيي وأمه متمويا، وربما ابنة مفقودة المنحوتة . تعكس هذه اللوحات الجدارية الرمزية العلاقة بين الملك والعائلة الإلهية.

من هو مِمْنون ولماذا أُطلق هذا الاسم على هذين التمثالين؟

اسم "ممْنون" ليس مصريًا بل يونانيًا؛ فقد اشتُهر التمثال الشمالي بسبب صوته الغامض عند الفجر، الذي اعتبره الزوار اليونانيون والرومان صوت "ممْنون"، البطل الأسطوري في حرب طروادة وابن إيوس، إلهة الفجر. تنص الميثولوجيا اليونانية على أن إلهة الفجر حزينة على مقتل ولدها وتبكيه كل صباح، وربطوا هذا الصوت الغريب بالتمثالين.

الاسم العربي الحديث للتماثيل هو "كوم الحتان"، إلا أن الاسم اليوناني-الروماني "ممْنون" هو الأكثر انتشارًا .

ADVERTISEMENT

كيف غنّى تمثالا ممْنون؟

كان للتمثال الشمالي ظهر مستقل بعد زلزال 27 ق.م، إذ تحطم النصف العلوي وتشقق الجزء السفلي. بعد الهزّة، اكتشف الزوار أن التمثال يصدر صوتًا في الصباح يفوق الوصف: وصله وصفات زائرة أن الصدى شبيهه بصوت معدني أو انكسار الأوتار، وأحيانا صوت الشِفت أو البوق .

سجّل الجغرافي ستراڤو عام 20 ق.م أنه سمع صوتًا "كصفعة خفيفة". أما باوزانياز، فشبهه بـ"انكسار وتر قيثار"، بينما أبلغ البعض أن الصوت احتوى على نغمات تشبه ضرب النحاس أو الصفير .

بحلول القرن الأول والثاني الميلادي، أصبحت ظاهرة «ممْنون المُغني» جذبًا كبيرًا، مع زيارة الأباطرة والأرستقراطيين، وكتابة أكثر من 107 نقش يوناني أو لاتيني على قاعدتها يفيد بتجربة السماع أو اختفائه .

بواسطة دورين كينيستينو - المصدر: بيكساباي

تفسير ظاهرة صوت تمثالي ممْنون:

ADVERTISEMENT

يرى العلماء أن الصوت الغامض الذي كان ينبعث من تمثال ممْنون يعود إلى أسباب طبيعية بحتة. ففي ساعات الصباح الباكر، تبدأ حرارة الشمس في تسخين الحجر الذي صنع منه التمثال، مما يؤدي إلى تبخر الندى الذي يتجمع داخل الشقوق والفجوات الموجودة في التمثال. هذا التبخر يسبب اهتزازات دقيقة تهتز على أثرها أجزاء من الحجر، وتنتج عن هذه الاهتزازات الأصوات الغامضة التي سمعت عبر القرون، والتي وصفها الزائرون على أنها أشبه بصوت الغناء أو النغمات الموسيقية. ولكن مع إصلاح التمثال الشمالي في القرن الثالث الميلادي، حيث تم سد هذه الشقوق وإعادة بناء أجزاء منه، توقّفت هذه الاهتزازات واختفى الصوت الغامض إلى الأبد، ليبقى التمثال صامتًا منذ ذلك الحين، حاملاً سره مع التاريخ.

تاريخ وأهمية معبد الدفن

كان معبد أمنحتب الثالث الأكبر في طيبة، يمتد على نحو 35 هكتارًا، ويُعدّ من أضخم وأفخم المعابد في التاريخ المصري القديم، لكنه تآكل بفعل الفياضانات والزلازل، وبقيت التماثيل شاهدة على مكانه .

ADVERTISEMENT

كانت الفكرة من التماثيل من وجهة نظر القوم في هذا الزمن أنها تعبّر عن وفاء الملك كإله حيٍّ في العالم الآخربحسب ظن علماء الآثار، كما تعكس حضوره الإلهي حتى بعد موته. وقد كان نحتهما على محور رئيسي للمعابد الأبدية جزءًا من طقوس دفن الفرعون.

ما الذي رآه الزوار قبل القرن الثالث الميلادي؟

كان مشهد تمثالي ممْنون "المغنّيّين" تجربة روحانية وثقافية لا تُنسى بالنسبة لروّاد الأقصر والعالم القديم، خاصة خلال القرنين الأول والثاني قبل الميلاد. فقد اجتمع الكُتّاب والفلاسفة والمسافرون من أنحاء الإمبراطورية الرومانية واليونانية ليسجّلوا انطباعاتهم عن الصوت الغامض المنبعث من التمثال عند شروق الشمس. وصف الجغرافي اليوناني ستراڤو عام 20 ق.م الصوت بأنه أشبه بـ"صفعة مفاجئة"، في حين شبّهه المؤرخ باوزانياز بـ"انكسار وتر قيثارة". أما بليني الأكبر، فقد وثّق عدة روايات مختلفة للظاهرة، بينما أشار كتّاب آخرون مثل تاسيتوس، ويوفنيال، وبيوبليوس إلى تأثيرها الغامض. لم يكتفِ الزوار بالسماع فقط، بل نقش العديد منهم أسماءهم ورسائلهم على قاعدة التمثال، اعتقادًا منهم أن صوت ممْنون يجلب الحظ أو يحمل رسالة إلهية، بل ربما تنبؤًا شخصيًا. تحوّل التمثال إلى مزار شبه مقدس، حيث امتزجت الأسطورة بالحقيقة، والتاريخ بالصدى، في تجربة فريدة لا تتكرر..

ADVERTISEMENT

نهاية الصوت، واستعادة الصمت:

في القرن الثالث الميلادي، شهد التمثال الشمالي من تمثالي ممْنون تحوّلاً حاسمًا أدى إلى اختفاء الصوت الغامض الذي طالما أدهش الزوّار. بعد أن زاره الإمبراطور الروماني سبتيميوس سيفيروس، قرر أن يعيد بناء التمثال الشمالي، ربما رغبةً في التقرب من القوى الإلهية التي كان يعتقد أن التمثال يجسدها. تم استبدال الكتل التي كانت سببًا في ظاهرة الصوت، وأُغلقت الشقوق التي كانت تلتقط بخار الماء وتُحدث اهتزازات تُنتج الأصوات العجيبة. هذه الإصلاحات الفنية أدت إلى اختفاء الصوت الغامض إلى الأبد، واستعادة التمثال لصمته الأبدي. ومنذ ذلك الحين، فقد التمثال إحدى أعظم أسراره القديمة، وتحولت الظاهرة التي كانت تُعدّ أعجوبة صوتية فريدة إلى ذكرى في كتب التاريخ، بينما بقيت التماثيل الصامدة شاهدة على عظمة الفن المصري القديم وصمود الزمن.

ADVERTISEMENT
بواسطة متحف كليفلاند- المصدر: أنسبلاش

عملاقان أثريّان يحكيان التاريخ

اعلى الرغم من انقطاع الصوت منذ القرن الثالث الميلادي، لا يزال تمثالا ممْنون العملاقان يقفان شامخين كرمز للملك أمنحتب الثالث، الذي حكم مصر في العصر الذهبي للدولة الحديثة. هذان التمثالان الضخمان، الذي يبلغ ارتفاعهما ما يقرب من 18 مترًا ويصل وزن الواحد منهما إلى حوالي 720 طنًا، صنعا بحرفية عالية من كتلة واحدة من الحجر الرملي، ما يعكس مهارة ونبل فنّانيها القدماء. كان موقعهما الأصلي عند مدخل المعبد الجنائزي الذي بناه أمنحتب الثالث ليكون مركزًا للعبادة والاحتفالات الدينية، ولكنه ضاع مع مرور الزمن بفعل عوامل الطبيعة والبشر. رغم ذلك، فقد استمر هذان التمثالان بالتحديد في جذب إعجاب العلماء، والسياسيين، والزوار من مختلف العصور، الذين وجدوا فيهما رمزًا للملكية المصرية والفخامة التي تميزت بها الحضارة المصرية القديمة.

ADVERTISEMENT
بواسطة إندر جو - المصدر: أنسبلاش

لماذا يستحق تمثالا ممنون الزيارة؟

تمثالا ممْنون ليسا مجرد نصبين تذكاريين عاديين، بل هما تجسيدان للحظة عبقرية هندسية وفنية لا مثيل لها في العصور القديمة، حيث تمكن القدماء من إنشاء تماثيل ضخمة متقنة بتفاصيل دقيقة استمرت لأكثر من ثلاثة آلاف عام. بالإضافة إلى ذلك، شكّل التمثال سجلًا صوتيًا أسطوريًا أثار فضول وإعجاب الزائرين عبر القرون، حيث توافد السياح من مختلف أنحاء العالم القديم للاستماع إلى صدى صوته الغامض عند شروق الشمس. كما أن التماثيل تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي الغني للأقصر، المدينة التي تحمل بين أزقتها وتاريخها كنوز الفراعنة وحكايات الحضارة المصرية العريقة. كذلك، تزخر المنطقة بطقوس دفن الفراعنة التي تجمع بين التاريخ والأسطورة، مما جعلها مركز جذب رئيسيًا للعالم الغربي منذ عهد اليونان والرومان وحتى يومنا هذا، لتبقى شاهدة حيّة على عظمة الحضارة المصرية.

ADVERTISEMENT

الوضع الحالي لتمثالي ممنون

يقع الموقع ضمن مشروع تنظيمي في الأقصر الغربية، حيث يعمل الأثريون على استكشاف وفتح محيط التماثيل. رغم تعرضها للتلف، إلا أنها محفوظة رغم أعمال الترميم، وتُعرض بكلمات وتحذيرات للزوار حتى لا تتضرر أثناء التجوّل .

بواسطة أيكيرا - المصدر: بيكساباي

خلاصة

تماثيل ممْنون، منذ نشأتها كرموز ملكية في القرن الرابع عشر ق.م، وحتى صمتها الأبدي، تمثل محطّ انصهار مذهل بين الفن والعلوم، الأسطورة والواقع. في تلك اللحظات الأولى من الفجر، عندما كان الزوار يستمعون إلى همسات الكائن الحجري، بدا العالم كله وكأنه يتوقف عند حدود المقدس. إنها تجربة تُذكرنا بأن ما بنته الحضارات العظيمة يخلد في ذاكرة الزمان، حتى لو خفت صدى صوته، فإن صدى حضوره سيبقى دائمًا.

أكثر المقالات

toTop