أحمد بن فضلان: أول رحالة عربي معروف وصل إلى بلاد الروس والصقالبة.

في سنة 309 هـ (921م)، كَلَّفَ الخليفة العباسي المقتدر بالله أحمد بن فضلان بالانضمام إلى سفارةٍ وجهَّها من عاصمته بغداد إلى مدينة بلغار (حاليًا في دولة روسيا)، وهي آنذاك عاصمة دولة الصقالبة أو بلغار الفولغا. كان السَّبب في إرسال هذه السفارة جوابًا على طلبٍ من حاكم الصقالبة ألمش بن شيلكي، الذي أشهر إسلامه حديثًا وقتذاك، وأراد إقامة حلفٍ مع الدولة العباسية يعينه في مقاومة سطوة دولة الخزر اليهود الذين فرضوا عليه التبعيَّة لهُم. كان هدف السفارة أن تَحْمِلَ إلى حاكم الصقالبة هدايا وأموالاً ليبني فيها مسجدًا وحصنًا يحتمي به من هجمات الخزر، وأن يرافقها فقهاء ومُعلِّمون يُلقِّنون أهل بلغار تعاليم الإسلام، ولم تتحقَّق هذه الأهداف كاملةً لأسباب عِدّة؛ رغم نجاح السفارة في الوصول إلى بلغار بعد رحلة استغرقت نحو عام.

تصف رسالة ابن فضلان شتى الشعوب والبلدان التي قابلها أثناء رحلته من بغداد إلى بلغار. ففيها أوصافٌ مُفصَّلة لعبوره مدنًا إسلامية منها: بخارى ووخوارزم وجرجانية، وأوصافٌ نادرةٌ جدًا لشعوب منها: الأتراك الغُزِّية وغيرهم من الشعوب التركية غير المسلمة حينذاك في غرب السهوب الأوراسية، والصقالبة أو البلغار الذين قصدهم ابن فضلان في رحلته، والخزر الذين ربما يكون ابن فضلان قد عبر بلادهم في طريق عودته، و"الروسية" أو الفايكنغ، الذين يُعْتَبَرُ وصفه لهم ذا أهمية خاصَّة لأنه من أوائل الأوصاف الواردة في التاريخ للتجار الإسكندنافيين في بلاد روسيا الحالية، ولأنه يتضمَّن وصف شاهد العيان الوحيد المعروف لطقوس الفايكنغ في الدَّفْن بالسُّفُن، أي بإحراق جثمان الميّت داخل سفينة

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon
صورة من wikimedia

واجهت السفارة تحدياتٍ جمَّة في طريقها، كانت أهمّها وأكبرها هي المال. إذ يرى بعض الباحثين أن بعثة "ابن فضلان" باءت بالفشل لأنها لم تتمكَّن من تحقيق هدفها الأساسي في تسليم المال الذي طلبه ملك الصقالبة لتعمير حصنٍ ومسجد. وكان التحدي هو أن الخليفة المقتدر لم يُسلِّم الوفد المال مباشرةً، وإنما أمر باقتطاع قسمٍ من خراج أو دَخْل منطقةٍ تتبَعُ للوزير ابن الفرات،وهي مدينة اسمها "أرثخشمثين" تقع في ولاية خراسان (وهي -بحسب ياقوت- مدينة كبيرة وعامرة الأسواق في خوارزم، ولو أن مكانها ومقابلها الحالي غير معروف)، وقد كُلِّفَ رجل اسمه "أحمد بن موسى الخوارزمي" باستلام الخراج وموافاة "ابن فضلان" والوفد فيه، لكنه وقع في أسر الدولة السامانية ولم يتمكَّن من موافاة البعثة، واضطرَّ "ابن فضلان" وبعثته -في النهاية- إلى متابعة طريقهم بدون المال الموعود بسبب اقتراب موسم الشتاء. وبذلك بلغ "ابن فضلان" وجهته بدون المال المطلوب، ممَّا أغضب عليه ملك الصقالبة.

صورة من wikimedia

يوصف أسلوب رسالة ابن فضلان في الأبحاث الحديثة بأنه »علمي«، وبأنه يتميَّز باهتمامه البالغ بوصف الثقافات الأجنبية وعاداتها وتقاليدها وصفاً دقيقاً من مأكل ومشرب وملبس وقيم وعادات وطقوس، حتى أن أوصافه تُشبَّه بأوصاف علماء الإنسان والأعراق للبشرية الحديثين، خصوصاً لبُعْدِها عن الأوصاف الخيالية والأسطورية التي تكثر في كتب الرحالة الآخرين من معاصريه.

صورة من wikimedia

لكن رسالة ابن فضلان فيها مبالغات كذلك، مثل قوله بأن يأجوج ومأجوج يسكنون خلف جدار معروف في بلاد الشمال، ومثل قوله أنه رأى عظام عملاق كان << [حجم] رأسه مثل القفير الكبير>> و<<أضلاعه أكبر من عراجين النخل>> ووصفه للأفاعي التي رآها في بلاد الصقالبة بأنها مثل << شجرة طويلة يكون طولها أكثر من مئة ذراع >>، ولو أن هذه المبالغات قد تكون ناجمةً عن الهلع. ومن أكثر مشاهداته العصيَّة على تفسيرها عقلانياً حديثه عن وجود وحيد القرن أو الكركدن في وسط آسيا، غير أن هذا الحيوان لم يسكن تلك الأقاليم تاريخياً ولا حالياً، ومما يشفع لهذه المشاهدة أن "ابن فضلان" لم يزعم أنه رأى وحيد القرن بأم عينه، وإنما نقل هذه الرواية عن أهل البلاد. ويذكر "ابن فضلان " أنه رأى ثلاث طيفوريات أي: أطباق)) مصنوعة من قرن الكركدن، وربما كانت هذه الأطباق مصنوعة -في الواقع- من أنياب الماموث المتحجّرة التي توجد في بلدان الشمال، والذي كان مادة مشهورة ونادرة لصناعة مقابض السكاكين.

صورة من wikimedia

كان أكبر ما لفت نظر "ابن فضلان" في البلاد التي زارها هو: المعتقد الديني، والنشاطات الاجتماعية (مثل الزواج)، والاقتصادية (مثل العملة). ويظهر حتى اهتمامه باللغة، فيَصِفُ طريقة حديث الناس في إحدى المدن بأنها تشبه "نقيق الضفادع"، وهو حكمٌ يُظْهِر استجابةً محدَّدة للغة الغريبة قد ترفضُ الاعتراف بها على أنها لغة.

صورة من wikimedia

تتضمن رسالة أحمد بن فضلان الوصف الوحيد المعروف من شاهد عيانٍ لطقس من طقوس الدفن عند الفايكنغ، وهو دفن الموتى في سفينة يضرمون بها النار حتى تحترق وتغرق. ويثق المؤرخون في شهادة عيان "ابن فضلان"، لكن بعضهم يحذّرون من تعميمها على طقوس الدفن والجنازة عند الفايكنغ والإسكندنافيين لأسباب عِدّة، منها: أن الجنازة كانت لرجل ثري (بوصف ابن فضلان)، ولأنها كانت في روسيا (وليس في إسكندنافيا)، ولأن بعضاً مما يصفه "ابن فضلان" كان كلاماً سمعه من مترجمين شفهيِّين ثم كتبه (وقد تكون في هذه الترجمة أخطاءٌ، مثل وصف العجوز بـ«ملاك الموت» ووصف الجنة بأنها «حسنةٌ خضراء «. كما أن "ابن فضلان" لا يتوقف أثناء هذا السرد ليستفسر عن معاني الطقوس والأشياء التي يراها، ولذلك فمن الصعب تفسير كل المشاهد التي يصفها وقد لا تكون لطقس الدفن -بالعموم- طبيعة واحدة بين الفايكنغ في مختلف أنحاء أوروبا آنذاك، بل ربما كان مزيجاً بين عاداتهم وعادات سائر الشعوب الذين اختلطوا بهم (كما يظهر من شواهد تاريخية أخرى على دفن السفن، مثل موقع ساتون هوو في بريطانيا).

صورة من wikimedia

اكتُشِفَتْ المخطوطة الأكْمَلُ (والوحيدة المعروفة) لرسالة "ابن فضلان" في مدينة مشهد (تاريخيًا: طوس) الإيرانية سنة 1924، وهي المخطوطة التي تستمدُّ الرسالة منها شهرتها الحالية. وتتألف المخطوطة من 212 ورقةً في كل منها 19 سطراً مُدوَّنة بخط النسخ، غير أن في آخرها سردٌ منقطعٌ (فيما يتعلَّق بأخبار دولة الخزر). وهذه هي المخطوطة الوحيدة التي فيها نصٌّ متّصل من رسالة ابن فضلان، والذي يَصِفُ خروجه من مدينة بغداد ومروره ببلاد الترك والروسية والصقالبة، وفي نهايتها فصلٌ مبتورٌ يَصِفُ دولة الخزر وعاصمتها أتيل.

صورة من wikimedia

في سنة 2010، قرَّر برلمان إقليم تتارستان الروسي (وهو الإقليم الذي تتبعه إداريًا مدينة بلغار الحديثة) اعتماد تاريخ وصول "ابن فضلان" إلى بلاد الصقالبة يومًا وطنيًا، وهو يوافق 12 أيار كل عام، كما أطلقت الحكومة مشروعًا بميزانية 100 مليون دولار للتنقيب عن آثار عاصمتها القديمة التي زارها "ابن فضلان"، وتَعْمَلُ على ترميم المساجد والآثار التاريخية للمدينة وإنشاء متحف يَحْمِلُ اسم "ابن فضلان

المزيد من المقالات