كيف تشكلت البروتينات الأولى على الأرض في الماء

ADVERTISEMENT

البروتينات هي عصب علم الأحياء، فهي مسؤولة عن كل شيء من البنية الخلوية إلى الدفاع المناعي. ومع ذلك، لا يزال أصلها أحد أكثر الأسئلة مراوغة في العلوم. فعلى عكس الحمض النووي الريبوزي (DNA) والحمض النووي الريبوزي (RNA)، اللذين يمكنهما تخزين المعلومات الوراثية ونقلها، لا تستطيع البروتينات تكرار نفسها. فهي تتكون من الأحماض الأمينية، ولكن تجميع هذه الأحماض الأمينية في سلاسل وظيفية يتطلب آليات خلوية معقدة - آليات تتكون بدورها من البروتينات. ولطالما حيرت هذه المفارقة الباحثين: كيف تشكلت البروتينات الأولى قبل وجود الإنزيمات والريبوسومات؟ تشير الدراسات الحديثة إلى أن الإجابة قد تكمن في الماء، المذيب البدائي الذي غمر الأرض في بداياتها. وعلى وجه الخصوص، حوّل العلماء انتباههم إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، وهو جزيء قادر على تخزين المعلومات وتحفيز التفاعلات. فربما كان الحمض النووي الريبوزي (RNA) بمثابة جسر بين الشفرة الوراثية ووظيفة البروتين، مما أدى إلى بدء الخطوات الأولى للتخليق الحيوي في البيئات المائية. تتحدى هذه الفكرة الافتراض السائد منذ فترة طويلة بأن تكوين البروتين يتطلب ظروفًا جافة أو أسطحًا معدنية. وبدلاً من ذلك، يقترح هذا البحث أن الكيمياء الأولية للحياة قد تكشفت في البرك والبحيرات والمحيطات - أماكن لم يكن الماء فيها عائقًا، بل مهدًا لها.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة AzaToth على wikipedia

الحمض النووي الريبوزي (RNA) وكيمياء الاتصال

كشفت دراسة رائدة قادها البروفيسور ماثيو باونر في كلية لندن الجامعية كيف ساهم الحمض النووي الريبوزي (RNA) في بناء أولى بروتينات الحياة باستخدام كيمياء بسيطة في الماء. اكتشف الفريق أن الأحماض الأمينية - وهي اللبنات الأساسية للبروتينات - يمكن أن ترتبط كيميائيًا بالحمض النووي الريبوزي (RNA) في ظروف مائية معتدلة دون الحاجة إلى إنزيمات. تبدأ هذه العملية بتحويل الأحماض الأمينية إلى شكل أكثر تفاعلية، يتم تنشيطه بواسطة مركبات تحتوي على الكبريت تسمى الثيوإسترات. هذه الثيوإسترات شائعة في عملية الأيض الحديثة، ومن المعروف أنها تُحرك العديد من التفاعلات البيولوجية، وربما وفرت الطاقة اللازمة لبدء تخليق البروتين في المراحل الباكرة للأرض . أظهر الباحثون أن هذه الأحماض الأمينية المنشطة يمكن أن ترتبط بالحمض النووي الريبوزي (RNA) في مواقع محددة، وخاصة في نهايات جزيئات الحمض النووي الريبوزي ثنائية السلسلة. هذه الانتقائية بالغة الأهمية، إذ تتجنب التفاعلات العشوائية التي قد تُشوّش التسلسلات. بمجرد ارتباط الأحماض الأمينية، شكّلت سلاسل قصيرة - ببتيدات - تُشبه بدايات البروتينات الحقيقية. حدث التفاعل عند درجة حموضة متعادلة وفي الماء، مما يُشير إلى أن الحياة المبكرة لم تكن بحاجة إلى ظروف غريبة لبدء تجميع أدواتها الجزيئية. بل اعتمدت على التفاعلية الكامنة للثيوإسترات والبنية التوجيهية للحمض النووي الريبوزي (RNA) لبناء التعقيد من البساطة.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Thomas Splettstoesser على wikipedia

الكبريت والماء وشرارة الوظيفة

إن دور الكبريت في هذه العملية ليس مجرد دور عرضي، بل ربما كان أساسيًا. تُعدّ الثيوإسترات، المتكونة من الثيولات (مركبات تحتوي على الكبريت)، جزيئات عالية الطاقة تُمكّن من تحفيز التفاعلات حتى في الماء. وعلى عكس العديد من المواد الكيميائية السابقة للتطور التي تتحلل بسرعة في البيئات المائية، تبقى الثيوإسترات مستقرة لفترة كافية لتسهيل التحولات المفيدة. وقد أظهرت أبحاث سابقة من نفس المجتمع البحثي أن البانتيثين، وهو الجزء النشط من الإنزيم المساعد أ - وهو جزيء أساسي لعملية الأيض الحديثة - يمكن أن يتشكل في ظل ظروف سابقة للتطور في الماء. ويدعم هذا الاكتشاف فكرة أن كيمياء الكبريت لم تكن موجودة فحسب، بل كانت أساسية في الكيمياء الحيوية المبكرة. وفي الدراسة الجديدة، ساعدت الثيوإسترات الأحماض الأمينية على الارتباط بالحمض النووي الريبوزي (RNA)، ثم عززت تكوين الروابط الببتيدية، وهي الروابط التي تربط البروتينات معًا. وقد كشف الباحثون عن عملية تحويل من خطوتين: أولًا، تربط الثيوإسترات الأحماض الأمينية بالحمض النووي الريبوزي (RNA)، مما يُنتج حمض أمينو أسيل (aminoacyl RNA)؛ ثانيًا، يُحوِّل مؤكسد خفيف هذه الأحماض إلى أحماض ثيوية، مما يُحفِّز تكوين رابطة ببتيدية. والنتيجة هي حمض ببتيدي RNA - جزيئات حمض ببتيدي RNA مُرتبطة بسلاسل قصيرة شبيهة بالبروتين. وتُمثِّل هذه الهجائن خطوةً حاسمةً نحو بروتينات وظيفية، مُبيِّنةً أن الكيمياء القائمة على الماء يُمكن أن تُنتج جزيئات ذات إمكانات معلوماتية وتحفيزية. إنها لمحةٌ عن كيفية بدء الحياة في تنسيق بنيتها ووظيفتها في نظام جزيئي واحد.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة TimVickers على wikipedia

من البرك البدائية إلى البصيرة الحديثة

تتجاوز آثار هذا البحث حدود المختبر. فهو يُشير إلى أن أصل الحياة ربما حدث في بيئات مائية مثل البرك الضحلة، أو الفتحات الحرارية المائية، أو البحيرات الساحلية - وهي أماكن غنية بالمعادن والحرارة والجزيئات العضوية. فمن شأن هذه البيئات أن تسمح للحمض النووي الريبوزي RNA والأحماض الأمينية بالتفاعل بشكل متكرر، مدفوعةً بدورات من البلل والجفاف، ومُدخَلات الطاقة من ضوء الشمس أو النشاط الحراري الأرضي. يُشكِّل تكوين الحمض النووي الريبوزي RNAالببتيديل في الماء تحديًا لفكرة أن الحياة تطلبت أسطحًا جافة أو قوالب بلورية للبدء. بدلاً من ذلك، يشير إلى أصل أكثر مرونة - حيث طفت الجزيئات واصطدمت وانتظمت تدريجيًا في أنظمة قادرة على التكاثر والاستقلاب. يساعد هذا النموذج أيضًا في حل مشكلة الدجاجة والبيضة في تخليق البروتين. إذا كان بإمكان الحمض النووي الريبوزي تحفيز تكوين الببتيدات قبل وجود الإنزيمات، فقد تكون البروتينات قد ظهرت كمنتج للكيمياء الموجهة بالحمض النووي الريبوزي، وليس كشرط أساسي لها. بمرور الوقت، ربما تطورت هذه الببتيدات إلى بروتينات أكثر تعقيدًا، مما أدى في النهاية إلى ظهور الآلية الأنزيمية التي نراها في الخلايا الحديثة. تسد الدراسة الفجوة بين المعلومات الوراثية والجزيئات الوظيفية، مما يوفر مسارًا معقولًا من الكيمياء إلى علم الأحياء. إنه تذكير بأن بدايات الحياة ربما كانت متواضعة - ليس شرارة مفاجئة، بل تكشف بطيئ في أعماق مياه الأرض القديمة الهادئة.

أكثر المقالات

toTop