بالشعر والأناشيد.. يسعى العمانيون إلى الحفاظ على لغتهم العريقة

ADVERTISEMENT

في مرتفعات منطقة ظفار الجنوبية بسلطنة عمان، تحت السحب المتشابكة والقمم الوعرة، لا يزال صدى التاريخ خافتًا. يجتمع رجال يرتدون أردية وأغطية رأس تقليدية تحت خيمة بسيطة، ويرفعون أصواتهم في جوقة شعرية. يقف الشاعر في الوسط، يقرأ باللغة الجبّالية - المعروفة أيضًا باسم الشحرية - وهي اللغة القديمة لقبائل جبال ظفار. حوله، يردد جمهوره كل سطر، وتردد أصداء ترانيمهم التي تنسج قرونًا من التقاليد الشفوية في الحاضر. في هذه المقالة نتحدث عن اللغة الشحرية، وتهديدها بالزوال، وعن المحاولات التي تجري لإنقاذها.

لغة قديمة حية في الصوت:

الجبّالية ليست مجرد لهجة، بل هي لغة حديثة مميزة من جنوب شبه الجزيرة العربية لها قواعدها النحوية الخاصة بها، وهي أقدم من اللغة العربية وتعود جذورها إلى اللغات السامية الغامضة في جنوب شبه الجزيرة العربية. ويؤكد الباحثون أنها لغة غنية تاريخياً وتعبيرياً، وكانت تستخدم في الماضي لتأليف الأمثال والأساطير والشعر، والتي توارثتها الأجيال شفوياً. من حيث النطق، تتميز اللغة الشحرية بستة أصوات ثلاثة منها شفوية (تصدر عن الشفتين)، وثلاثة شدقية (تصدر عن جانب الفم).

ADVERTISEMENT

اليوم، لا يتحدث الشحرية سوى حوالي 2٪ من سكان عمان، أي ما يقرب من 120 ألف شخص في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من خمسة ملايين نسمة. على الرغم من أنها لا تزال حية في بعض جيوب الحياة المجتمعية الريفية، إلا أن بقاء هذه اللغة هش، خاصة في مواجهة المد الواسع للعربية والعولمة.

”محمية بالعزلة“ — لكنها لا تزال مهددة بالانقراض:

شكلت الجغرافيا الفريدة لمنطقة ظفار - التي تحدها الجبال وصحراء الربع الخالي والبحر -حصنًا طبيعيًا حافظ على اللغة الشحرية ومتحدثيها لقرون. وقد عززت هذه العزلة استمرارية الثقافة، لكنها لم تحمِ اللغة من التهديدات الحديثة. يحذر الباحثون من أن لغات ظفارية أخرى، مثل الباثارية، على وشك الانقراض، حيث لا يتحدثها سوى عدد قليل من كبار السن المتبقين. ويقول إن الشحرية معرضة لمصير مماثل ما لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة للحفاظ عليها.

ADVERTISEMENT
الصورة في المجال العام على pxhere

للبان الظفاري

دور الشعر والجيل القادم:

أحد أقوى أدوات الحفاظ على اللغة هو الشعر. في قرى ظفار، خاصة خلال التجمعات مثل حفلات الزفاف أو الأعياد المجتمعية، لا تقتصر الأناشيد الشعرية باللغة الجبّالية على الترفيه فحسب، بل إنها تعزز وجود اللغة وقوتها التذكيرية. هذه العروض الشفوية مليئة بالمفردات القديمة والتعبيرات التي قد لا تبقى على الورق ولكنها تبقى على اللسان.

يؤكد المدافعون عن التراث، على أهمية الاستخدام اليومي. يتحدثون، والعديد من الآباء، باللغة الجبّالية مع أطفالهم في المنزل، وينقلون لغتهم الأم من خلال التهويدات والأغاني الشعبية والقصص الشفوية. وبفضل اندماجها في الحياة الأسرية، تظل اللغة حية في أنقى صورها. وبالفعل، عندما يتحدث الزوار مع الأطفال المحليين، يعترف بعضهم بأنهم يفضلون التحدث باللغة الجبّالية على العربية.

ADVERTISEMENT

من الشفهي إلى المكتوب - توثيق ما لم يُكتب قط:

على الرغم من تاريخها الشفهي الغني، لا تزال اللغة الجبّالية غير موثقة إلى حد كبير؛ فهي لا تُدرس في المدارس ولا ترد في المناهج الدراسية. هذه الفجوة تجعلها عرضة للتآكل التدريجي. إدراكًا لهذا التهديد، ركزت المبادرات في إطار خطة عمان الاقتصادية ”رؤية 2040“ على التراث الثقافي كأولوية وطنية.

يقود الباحثون مشروعًا من خلال جامعة ظفار لإنشاء ما يمكن أن يصبح القاموس الأكثر شمولاً للغة الجبالية: حوالي 125,000 مدخل، مع ترجمات باللغتين العربية والإنجليزية، وأدوات رقمية لتسجيل النطق الأصلي للحفاظ على الأصوات التي يكاد يكون من المستحيل التقاطها في الكتابة. إذا نجح هذا المشروع، فسيكون خطوة أساسية للحفاظ على اللغة، ما يسمح للأجيال القادمة بدراسة اللغة وتدريسها وإحيائها في الأوساط الرسمية.

ADVERTISEMENT
الصورة بواسطة Sadeec على wikimedia

خارطة اللغات المحلية في جنوب شبه الجزيرة العربية، وتظهر الشحرية من بينها

الثقافة والهوية وضرورة الحفاظ عليها:

تسلط محنة اللغة الشحرية الضوء على قضايا أوسع نطاقًا تتعلق باللغة والهوية والحداثة. في المشهد اللغوي الحديث لجنوب شبه الجزيرة العربية، تواجه لغات أخرى - مثل المهرية والسقطرية والهوبيوت - خطرًا مشابهًا أو أكثر خطورة. فالهوبيوت، على سبيل المثال، تعتبر مهددة بالانقراض بشكل خطير، حيث ربما لم يتبق سوى بضع عشرات إلى ألف متحدث بها في عمان واليمن. في هذا السياق، يصبح بقاء اللغة الشحرية موقفًا ذا مغزى ضد انقراض اللغة بشكل عام.

وكما عبر عنه المدافعون عن التراث في سقطرى المجاورة، لا يمكن الحفاظ على الثقافة بشكل كامل ما لم يتم تضمين الناس - وليس فقط الآثار أو القطع الأثرية - في دائرة الحماية هذه. الجبالية ليست مجرد مفردات. إنها صوت تاريخ ظفار وهويتها وعالمها، تنتقل من الشاعر إلى الأطفال، ومن التلال إلى السهول.

ADVERTISEMENT
الصورة بواسطة Sailko على wikimedia

استوطن الإنسان منطقة جبل سمحان في ظفار منذ آلاف السنين

جزء من نسيج أكبر:

إن التزام عمان بالتقاليد الشفوية يتجاوز اللغات. يشمل التراث غير المادي للبلاد ممارسات مدرجة في قائمة اليونسكو مثل التغرودا، وهي ترنيمة بدوية تغنى أثناء ركوب الجمال، والعازي، وهو أداء شعري مصحوب بالسيوف والردود الكورالية. لطالما عملت هذه الأشكال الفنية كعامل تماسك ثقافي، يربط المجتمعات معًا عبر الزمان والمكان.

يأتي الحفاظ على الجبّالية بشكل طبيعي ضمن هذا التراث. إنه تذكير بأن اللغة هي أكثر من مجرد أداة للتواصل — إنها وعاء للنظرة إلى العالم والتاريخ والانتماء.

تزايد أصوات الأمل:

في جبال ظفار، عندما يقرأ الشاعر باللغة الشحرية، فإنه يفعل أكثر من مجرد إلقاء الشعر. إنه يحيي تقليدًا يتردد صداه عبر الزمن، ولا يزال بإمكان من يسمعونه ويستجيبون له بأصواتهم المطالبة به. تصبح الشعر والأناشيد فصولًا دراسية حية، حيث يكون كل صدى درسًا وتمردًا في الوقت نفسه، يقاوم التآكل.

ADVERTISEMENT

الخاتمة:

دفع التهديد الوشيك بالزوال إلى تضافر الجهود: التقاليد الشفوية والأوساط الأكاديمية والنشاط المجتمعي والسياسة الوطنية. من خلال الممارسات العائلية والمهرجانات والمبادرات الجامعية والدعم الحكومي، يتم منح الشحرية طريقًا للخروج من العزلة نحو الاعتراف المتجدد.

في تلك الدوائر الغنائية، المحاطة بالضباب وأمواج الأرض القديمة، تستمر الشحرية - ليس فقط كلغة، بل كإرث. وطالما ارتفعت الأصوات معاً في الشعر، لن تصمت الشحرية.

أكثر المقالات

toTop