يُعدّ الكسكس، المصنوع من سميد القمح القاسي المطهو على البخار، أكثر من مجرد طبق: فهو رمز للهوية الثقافية والمطبخ في شمال أفريقيا، من المغرب إلى موريتانيا. يمتد الطبخ عبر التاريخ والجغرافيا، حيث زُرع القمح في سهول الأطلس، وساهمت طرق التجارة القديمة من قرطاج إلى الأندلس في تشكيل نكهاته. نشأت تقاليد تحضيره داخل المجتمع الأمازيغي، لتعكس لاحقاً التأثيرات العربية والإسلامية التي أضفت عليه طابعاً دينياً واجتماعياً، لا سيما كسكس الجمعة.
يشكّل الكسكس جزءاً أساسياً من الحياة اليومية والمناسبات الخاصة، وهو غذاء يُستهلك على نطاق واسع في دول شمال أفريقيا مثل الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، بالإضافة إلى انتشاره في أوروبا، خاصةً في فرنسا. أُدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي عام 2020، ما يعكس قيمته الرمزية وارتباطه بالهوية النسائية والجماعية في تحضيره وتقديمه.
قراءة مقترحة
يُطهى الكسكس التقليدي بثلاث مراحل تبخير في قدر "كسكسي" خاص، بين كل شوط يُفرك بالزيت والماء ويُنفش لتحسين قوامه. يُقدّم غالباً مع مرق عطري يحتوي خضروات موسمية، وحمص، ولحوم أو أسماك، وتضاف له نكهات مثل الهريسة والطفايا والليمون الحامض. تنتشر أصنافه حسب المنطقة: في المغرب يُقدّم مع سبعة أنواع خضار أو مع الزبيب (السفة)، في الجزائر بمرق أحمر أو اللبن، وفي تونس مع الأسماك والهريسة.
لعبت الهجرة والتبادل الثقافي دوراً في انتشاره، مع تكييف الكسكس في المطابخ الأوروبية والمهرجانات الدولية مثل مهرجان صقلية. الطلب التجاري عليه كبير، حيث تُعدّ تونس والمغرب من أبرز المُصدرين إلى أوروبا. تستمر المطاعم والمتاجر في تقديم الكسكس بوصفه جزءاً من ثقافة الطهي اليومية والعريقة.
في مواجهة تحديات المناخ والتغذية، بدأت تظهر ابتكارات باستخدام الحبوب الكاملة أو الخالية من الغلوتين، مع التمسك بالتحضير التقليدي بالبخار. يُستخدم الكسكس حالياً في رواية قصص الانتماء والهجرة من خلال الفعاليات الثقافية والمهرجانات، مما يعزز حضوره كأداة للدبلوماسية الثقافية ووسيلة لربط الماضي بالحاضر.
الكسكس ليس مجرد طعام، بل حكاية مجتمعات، ذاكرة مشتركة، وجسر بين البيوت التقليدية والمطابخ العصرية حول العالم.
