هل لبن العصفور حقيقة؟

يبدو للوهلة الأولى أن الحليب يفرق بين الثدييات وغيرها من الكائنات. ومصطلح الثدييّات نفسه مشتقّ من الغدد الصدرية التي تنتج الحليب. وقد ربطت هذه الميزة الثدييات معًا عبر مئات الملايين من السنين، لأن الثدييات فقط هي التي تغذّي صغارها بحليبها الحقيقي. ولكن من المعروف منذ زمن حالات غريبة لبعض الحيوانات التي تتكاثر بالبيض والتي تنتج الحليب، مثل خلد الماء الذي يفرز الحليب من المسام الموجودة في جلده. ومع استمرار علماء الحيوان في استكشاف الحياة على الأرض، ظلوا يعثرون على حيوانات غير متوقعة منتجة للحليب من بين كائنات بعيدة الصلة مثل العناكب القافزة وطيور النحام (الفلامنجو). بعض هذه الحيوانات غير الثديية تطعم صغارها بطريقة مشابهة لكيفية إطعام الثدييات صغارها بالحليب. تهدف هذه المقالة إلى استكشاف عدد من هذه الحيوانات غير المتوقّعة.

اكتشاف مفاجئ:

في وقت سابق من هذا العام، أعلن عالم الأحياء كارلوس جاريد من معهد بوتانتان في ساو باولو بالبرازيل وزملاؤه، في مجلة العلوم (Science)، عن اكتشاف أحد هذه المنتجات غير المسبوقة التي توفر الحليب. إناث البرمائيات الشبيهة بالديدان Siphonops annulatus تفرز سائلًا دهنيًا - الحليب - لنسلها الجديد على مدار شهرين. ووجد الباحثون أن الحليب لا يأتي من خلال الحلمة، ولكن من داخل البرمائيات. حتى أن صغارها تصدر أصوات نقر عندما تقترب من أمها للحصول على الحليب، على نحو شبيه بالجراء الجائعة التي تنتظر وجبتها التالية. يقضي الصغار الكثير من الوقت حول أمهاتهم، ويتنافسون باستمرار على الأماكن المحيطة بها. وعندما درس الباحثون تركيبة السائل وسلوكه، وجدوا أن الصغار كانت تتغذى على الحليب الذي تفرزه الأم خصيصًا استجابة للأصوات عالية النبرة التي تصدرها صغارها.

في البرمائيّات أيضًا:

على الرغم من أن هذا الاكتشاف كان مفاجئًا، إلا أنه لم يكن المرة الأولى التي يعثر فيها الباحثون على حيوانات غير ثديية طورت أشكالًا خاصة بها من الحليب. وترتبط هذه المادة ارتباطًا وثيقًا برعاية الوالدين، حيث تزود الأبناء بالطعام الأساسي وتبقيهم قريبين عندما يكونون في أشد حالاتهم ضعفًا. فمنذ عقود، عرف علماء الحيوان أن هناك شيئًا ما يحدث مع هذه البرمائيات. يقول جاريد: "منذ ما يقرب من 70 عامًا، نُشرت دراسة تُظهر أن إناث الضفادع الثعبانية الولودة تحتفظ بالأجنة داخل قنوات بيضها في أوقات غير مناسبة لولادتها، حيث تتغذى بمادة تشبه الحليب تفرز في قناة البيض. وكان هذا في وقتها كل شيء معروف. مع مرور الوقت، استمر علماء الحيوان في العثور على أمثلة لصغار الضفادع الثعبانية التي تتغذى على مخاط وجلد أمهاتها، وهي استراتيجية مختلفة تمامًا عن سلوك الضفادع العادية الذي يستخدمه العديد من الضفادع لبدء الجيل التالي (سلوك "ضعي البيض واتركيه وشأنه"). فالضفادع الثعبانية تظهر رعاية أبوية رائعة بتغذية صغارها على هذا النحو.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

يبدو إذًا أن ما أصبح معيارًا للثدييات ظهر عدة مرات بين الحيوانات، بما في ذلك تلك التي لا نربطها عادةً بالأبوة والرعاية الأبوية.

والطيور؟

صورة من unsplash

في عدة أنواع من الطيور (بما في ذلك بعض الحمام، وطيور البطريق الإمبراطور، وطيور النحام)، يقوم الطائر بإنتاج مادة تشبه الحليب ويطعمها لصغاره. يشار إلى حليب الحمام باسم "حليب الحوصلة"، لأنه يفرز من الحوصلة، وهي كيس موجود في أسفل الرقبة يخزن الطائر فيه الطعام غير المهضوم، فيرطّبه قبل هضمه. ويعرف أيضًا باسم لبن العصفور. وقبل أن تفقس الصيصان مباشرة، تمتلئ حوصلة ذكور وإناث الحمام بالحليب، والذي يطعمه كلاهما للفراخ لعدة أيام بعد الفقس. وقد أكدت الدراسات والملاحظات أن هذه الطيور لا تغذّي صغارها على تقيؤ الطعام الذي تجمعه في حوصلتها فحسب، بل إنها تنتج هذا الحليب لإطعام صغارها أثناء وجودها في العش. وهو حليب مليء بالبروتينات والدهون اللازمة لنمو الفرخ. في الواقع، عندما قام العلماء بتغذية الدجاج بالحليب في دراسة أجريت عام 1952، وجدوا أن معدل نمو الدجاج ارتفع بنسبة 38٪ مقارنة بالأعلاف العادية. في معظم الطيور، يكون الذكر والأنثى قادرين على تغذية الصغار بحليب الحوصلة.

في طيور البطريق، يكون الذكر فقط قادرًا على ذلك، وهذا منطقي، لأن الذكور هي التي تتولّى في معظم الوقت مهمّة تربية الصغار المبكرة. حليب الحمام هو الأقرب إلى الثدييات، ولكن جميعها تغذي الفراخ. هذه الملاحظات تطرح أيضًا أسئلة أخرى فبالنظر إلى أن الطيور طورت شكلها الخاص من الحليب، وأن الطيور ورثت العديد من القدرات من أسلافها من الديناصورات، يشير الباحثون إلى أن بعض الديناصورات ربما اهتمت بصغارها بطريقة مماثلة.

أمثلة أخرى:

صورة من wikimedia

تقوم سمكة القرص (discus fish) بإطعام صغارها نسختها من "الحليب" وهو نوع من المخاط.

تقوم بعض الصراصير بإطعام صغارها "الحليب".تقوم بعض العقارب الزائفة (pseudoscorpions) بإطعام صغارها "الحليب" الذي يتم إنتاجه في المبايض.

تنتج ذبابة تسي تسي مادة تشبه الحليب بيضاء اللون وغنية بالدهون، تفرزها الإناث، وتغذي الصغار.

وأخيرًا نذكر العناكب التي ليست بالضبط الحيوانات الأولى التي نفكر فيها عندما يتعلق الأمر برعاية الوالدين. ولكن في عام 2018، أعلن باحثون صينيون أنهم عثروا على عنكبوت قافز يدعى (Toxeus Magnus) يوفر الحليب لصغاره حتى تنمو بما يكفي لتدبر أمرها بنفسها. في هذه الحالة، يُنتج العنكبوت القافز قطرات من سائل يشبه الحليب من ثلم في بطنه. وتستمر العنكبوت الأم في إعطاء الحليب لصغارها حتى بعد أن تنمو إلى حجم البالغين.

صورة من unsplash

مما لا شك فيه أن رعاية الوالدين وتوفير الحليب ساعدت الثدييات على الازدهار منذ زمن الديناصورات الأولى وحتى يومنا هذا، ومع ذلك فإن الثدييات ليست فريدة من نوعها في مساعدة نسلها. لقد تطور العديد من أشكال الحياة لكي تفعل ما تفعله لمساعدة الجيل القادم على النمو. في المرة القادمة التي ترى فيها حمامة على الرصيف فكر في الرعاية المشتركة بيننا، وفي أنّ الحليب ليس مرادفًا للثدييّات.

المزيد من المقالات