تاريخ القطط بين الحبّ والقتل

في بلاد النوبة، وعلى ضفاف نهر النيل، في العام 3000 ق.م تقريبًا، نشأت أوّل علاقة صداقةٍ في التاريخ بين القطط والإنسان، تلك العلاقة التي تطوّرت وانتشرت على مدى آلافٍ من السنين لتصبح شكلًا من أشكال التعايش اليوميّ تصل أحيانًا لدرجة عدم الاستغناء. لاندري بالضبط كيف بدأت تلك العلاقة ولا من بدأها، هل نحن من اخترنا القطط كحيواناتٍ أليفةٍ؟ أم هي التي اختارت مشاركة البشر في حياتهم؟ لا أحد يستطيع الإجابة... لكنهم يقولون أن لها شخصيّتها المستقلّة وأنها تختار أليفها. لم تكن العلاقة بين القطط والبشر عاديّةً أبدًا دائمًا، فتارةً تجد البشر يحبونها حبًّا عظيمًا لدرجة التقديس والعبادة كما حدث في مصر القديمة، وتارةً أخرى أحرقوها وعذّبوها وقتلوها حيث تسجّل كتب التاريخ بعض الأحداث المؤسفة التي كان يقوم بها بعض البشر من قتلٍ وحرقٍ لهذه الكائنات المسكينة ظنًّا منهم أنّها شرّيرةٌ ولها علاقةٌ بالسحر كما حدث في أوروبا في العصور الوسطى، لكنّنا نلاحظ أنّ كلا النوعين من البشر قد اتّفقا على أنّ للقطط قوى وقدراتٍ روحيّةً خفيّةً، منهم من اعتبرها قوى ملائكيّةً فأحبّوها وقدّسوها، ومنهم من اعتبرها قوى شرّيرةً فقتلوها وأحرقوها. دعونا نأخذ جولةً حول العالم وحضارات التاريخ القديمة، سنتحدث عن الفريقين ونرى لماذا اختلفا في نظرتهما لهذه المخلوقات رغم اتّفاقهما على تميّزها.

عبادة القطط في مصر القديمة

لا يوجد في تاريخ البشر من عبد القطط وصنع لها هذا الكمّ من التماثيل والرسومات مثل المصريّين القدماء، بل أنّهم قاموا بتحنيط العديد منها للحفاظ عليها بعد الموت، كما أنّها قد لاقت لديهم معاملةً ليس لها مثيلٌ في العالم في تلك الفترة أو غيرها في التاريخ، حيث أن القوانين المصريّة القديمة كانت تعافب أيّ فردٍ يؤذي القطط وقد تصل العقوبة لحدّ الموت. يسجّل التاريخ أن أوّل معبودةٍ للبشر من القطط كانت تسمى "مافدت"، والتي تعني باللغة المصريّة القديمة "العدّاءة"، وتمّت عبادتها خلال فترة حكم الأسرة المصريّة الأولى خلال الفترة من 2920 ق.م وحتى 2770 ق.م. وكان المصريّون القدماء ينحتون لها تماثيل بجسد امرأةٍ لها رأس شيتا (الفهد الصيّاد).

إذا تمعّنّا في اختيار المصريّين القدماء للشيتا فسنجد به بعض الدلالات القويّة التي تدلّ على أنّ صفات الفهد الصيّاد الجسديّة والبدنيّة قد أعجزت المصريّين القدماء بصورةٍ كبيرةٍ ممّا دفعهم إلى تقديس هذا القطّ القويّ الماهر لما رأوه من قدرةٍ كبيرةٍ على الصيد وسرعةٍ لا يضاهيه فيها أيّ كائنٍ آخر في العالم حتى يومنا هذا. وإذا نظرنا إلى إمكانات البشر في هذا الزمن فنستطيع أن نقول أنّ الشيتا كانت بالنسبة لهم أقرب إلى المعجزة من حيث سرعتها الفائقة ومرونتها الشديدة.

مع مرور الزمن، اتخذ البشر معبوداتٍ أخرى غير "مافدت" لها دلالاتٌ مختلفةٌ مثل المعبودة "سخمت" معبودة الحرب، والتي تعني باللغة المصريّة القديمة "القويّة"، وكانوا ينحتون لها تماثيل امرأةٍ برأس لبؤةٍ (أنثى الأسد)،

ومن المعروف عن الأسد أنّه من أقوى القطط وله من الهيبة والقوّة ما لاينكره أحد. و نلاحظ أنّ المصريّين القدماء مثّلوا كلا المعبودتين بجسد امرأةٍ وهي إشارةٌ تدلّ على انبهارهم بمهارة الصيد لدى تلك القطط، حيث أنّه من المعروف أنّ أنثى الشيتا وأنثى الأسد هما من تقومان بعمليّة الصيد وليس الذكور. ثم هناك المعبودة الأشهر في مصر القديمة والتي تُدعى "باستِت" وهي معبودة الحماية والمتعة والصحّة لدى المصريّين القدماء، ويمثّلها المصريّون القدماء بامرأةٍ بجسدٍ يشبه قططنا المنزليّة، و قصّتها تدور حول أنّها تحمي أباها "رع" دائمًا من الثعبان الشرّير "أبيب" الذي يحاول دائمًا أن يتسلّل ليلدغه، وفي قصّتها إشارةٌ مباشرةٌ ودليلٌ قويٌّ على أنّ قدرة تلك المخلوقات على قتل الثعابين قد تكون من الأسباب الرئيسيّة لاستئناسها أو على الأقلّ للشعور بالراحة والطمأنينة في وجودها خصوصًا إذا كانت المنطقة مليئةً بالثعابين، فهي متيقظةٌ دائمًا وتستطيع أن تكشف الثعبان المتسلّل قبل الإنسان في أغلب الأحوال بسبب حواسّها القويّة من السمع والبصر والشمّ وغريزتها الطبيعيّة في البحث عن الثعابين والكائنات الزاحفة والتخلّص منها لحماية أطفالها.

عبادة القطط في العراق وبابل

نترك التاريخ المصريّ قليلًا ونتّجه شرقًا نحو أرض العراق ونتطلّع إلى إحدى صفحات التاريخ البابليّ حيث حضارة بابل الموغلة في القدم، سنجد أن البابليّين قد عبدوا قطًّا أسموه "نرجال"أو "نرغال"، وهو معبود الحرب والوباء ويأتي في موسم الصيف الذي يسمّوه بموسم الموت، وكان على شكل أسدٍ، والغريب أنّ أوّل ظهورٍ لهذا الاسم كان في فترة الملك الحيثيّ "سابيليوليوما الأول" عندما انتشر وباء الطاعون قادمًا من مصر، إذًا فمن المحتمل أن يكون قد ارتبط في أذهان البابليّين القدماء صورة المعبودة المصريّة سخمت معبودة الحرب في مصر بأنّها شيءٌ سلبيٌّ وأنّها بشكلٍ ما قد أثّرت عليهم سلبًا وتسبّبت في نشر وباء الطاعون خاصّةً وأنّ هناك مرحلةٌ في التاريخ كانت الحروب دائرةً بين حضارتي وادي النيل و بلاد الرافدين.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

عبادة القطط في التاريخ الهنديّ القديم

صورة من wikimedia

من العراق نكمل المسيرة شرقًا حتى نصل إلى الحضارة الهنديّة فنجد أنهم عبدوا قطّةً أسموها "دون"، والتي هي عبارةٌ عن نصف أسدٍ ونصف نمرٍ، تهاجم أعداء المعبود "دورغا" الذي يمتطيها ويحارب بعشرة أسلحةٍ في حين أن "دون" تفترس أعداءه بمخالبها وأنيابها الحادّة.

القطط في التاريخ الصينيّ

صورة من wikimedia

يوجد نصٌّ صينيُّ قديمٌ يقول: "إذا غسل القطّ وجهه، فإنّها ستمطر"، وكتب مؤلّف أسرة تانغ الصينيّة جوان شينغشي: "إذا رفع القطّ كفّه أعلى من أذنيه وغسل وجهه، فستأتي العملاء للشراء"، مما يدلّ على أنّها كانت إشارةً للحظّ الجيّد ورواج التجارة عند الصينيّين القدماء، وممّا يعزّز هذا الاستنتاج هو سماح الصينيين القدماء للقطط بالركوب في السفن التجاريّة وتواجدها بحرّيّةٍ بين صفوف الجنود في الجيش.

القطط في التاريخ اليابانيّ

صورة من wikimedia

نترك الهند ونتّجه لليابان خلال فترة إيدو من الحضارة اليابانيّة في القرن الثامن عشر، ظهر تمثالٌ لقطٍّ شهيرٍ يستخدمه اليابانيّون حتى الآن لجلب الحظ، وهو تمثال القطّ "مانيكي-نيكو". يقال أنّه ظهر لأوّل مرّةٍ في طوكيو التي كانت تسمّى حينها " إيدو" ويقال أيضًا أنها ظهرت في "كيوتو"، لا توجد معلوماتٌ دقيقةٌ حول أصل "مانيكي-نيكو" في اليابان لكنّها تشبه كثيرًا تماثيل القطط التي تغسل وجهها والتي وجدت في الصين منذ فترة أسرة وي الشماليّة بين عامي 386م و 534 م، ومازالت تماثيل "مانيكي-نيكو" تكتسب شعبيّةً كبيرةً في اليابان حتّى الآن.

أعداء القطط في الماضي .. أصدقاء اليوم

صورة من wikimedia

مرّت أوروبا بفترة العصور الوسطى التي كانت أسوأ فترةٍ في تاريخ القطط من حيث التعذيب والقتل والحرق، كان الأوروبيّون في العصور الوسطى ينظرون إليها على أنّها أداةٌ من أدوات الشيطان وكانوا يربطون بينها وبين السحر وأعمال الشعوذة، ولعلّ أحد الأسباب التي أوصلت الكراهيّة لهذا الحدّ هو إرسال رسالةٍ من شخصٍ يُدعى " كونراد فون ماربرغ " إلى البابا غريغوري التاسع يحذّره فيها من مجموعة أشخاصٍ تقوم بأعمالٍ شيطانيّةٍ على حدّ وصفه، كانوا يستخدمون فيها تمثالًا لقطٍّ أسودٍ يتحرّك بصورةٍ شيطانيّةٍ نتيجة تعاويذ ويتحّول إلى نصف إنسانٍ من الأعلى ونصف قطٍّ من الأسفل ويتحاور مع هؤلاء الأشخاص، وترتّب على تلك الرسالة الغريبة صدور مرسوم "فوكس إن راما" الذي أصدره البابا "غريغوري التاسع" عام 1232م والذي أدان فيه القطط خصوصًا السوداء منها وربطها بأعمال السحر، مما تسبّب في حالةٍ من الكراهيّة الشديدة بين الأوروبّيّين والقطط ترتّب عليها حدوث أكبر مذبحةٍ للقطط في التاريخ، واستمرّت تلك المعاناة المريرة منذ القرن الحادي عشر وحتى القرن الخامس عشر الميلاديّ.

انتقام القطط

صورة من wikimedia

ترتّب على عمليّات قتل ملايين القطط في أوروبا انتشارٌ واسعٌ ورهيبٌ للفئران، مما أدّى بدوره إلى انتشارٍ كبيرٍ للأوبئة في أوروبا وخصوصًا وباء الطاعون الأسود بشكلٍ لا يمكن السيطرة عليه، مما أدّى إلى موت أكثر من ثلث سكّان أوروبا، فكان ذلك بمثابة انتقامٍ لتلك القطط المسكينة.

أما في عصرنا الحاليّ فتتمتّع القطط بمحبّة الملايين من البشر وتعيش حياةً هادئةً مع أليفها بالمنزل، وبالرغم من ظاهرة قطط الشوارع التي قد تكون منتشرةً في أماكن كثيرةٍ حول العالم، إلّا أنّنا يمكننا القول أنّ كثيرًا من القطط اليوم تعيش حياة رفاهيّةٍ لا تتوفّر لبعض البشر.

المزيد من المقالات