الملوخية أكثر من مجرد أكلة

الملوخية هي أكلة مصرية شهيرة يعود أصلها إلى المصريين القدماء ثم انتشرت الأكلة إلى بعض البلاد العربية كالمغرب والجزائر. أساس هذه الأكل هو نبات من فصيلة الخبازيات وتستعمل أوراق هذا النبات في طهي الملوخية. تقدم هذه الأكلة في شكل حساء أخضر اللون.

من أين أتى اسم "الملوخية"؟

بدأت قصة التسمية في القرن العاشر الميلادي عندما مرض أحد حكام مصر، المعز لدين الله الفاطمي، وشعر بتوعك في المعدة فأوصاه أحد الأطباء بالملوخية ولم تكن تزرع حينها في مصر فأتى بها الملك واحتساها وبدأ بعدها في الشعور بالتحسن. أمر بعدها المعز لدين الله الفاطمي بزراعة الملوخية في حديقته حتى يستطيع استعمالها متى شاء. قلد المعز أصدقائه وحاشيته فزرعوا الملوخية مثله فاقتصرت على علية القوم آن ذاك. من هنا ذاع سيط الملوخية كحساء شافي وكطعام لا يأكله إلا الملوك، ومن ثم سميت الأكلة "ملوكية"، أي الطعام الذي يأكله الملوك. تغير اسم هذه الأكلة عبر الزمان فأصبح "ملوخية" ولم يعد يقتصر على الملوك بل بالعكس. الملوخية اليوم هي خضروات بسيطة الثمن يأكلها الأغنياء والفقراء على حد السواء فتجدها على الأرض بجانب رغيف من الخبز وقد تجدها في أفخم المطاعم بجانب أغلى اللحوم والمشويات. فاذا بحثت سوف تجد أن أغلب المطاعم القريبة منك تقدم الملوخية مهما كام موقعك بداخل مصر

لماذا منعت الملوخية في وقت من الأوقات؟

يحكى أنه في عام 1805 وبالتحديد في عصر الفاطميين قام الخليفة الحاكم بأمر الله، أحد حكام مصر في ذاك الوقت وكان معروفاً عنه إصداره للأحكام الغريبة، بمنع تناول الملوخية. تكاثرت الأقاويل حول سبب هذا القرار. فيقال إنه منعها لأنها كانت أكلة قريبة إلى قلوب أهل الشام ومشهورة بينهم بينما كان الحاكم بأمر الله يكره معاوية، الخليفة الأموي. وفي رواية أخرى قيل إنها منعت لأنها اشتهرت بزيادة الشهوة الجنسية عند النساء مما تعارض مع طبيعة المجتمع في ذلك الوقت. ولكن هل للملوخية هذا التأثير بالفعل؟

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

فوائد الملوخية

صورة من unsplash

في حقيقة الأمر لم تكن قصة حاكم مصر التي ساعدته الملوخية في تهدئة أوجاع معدته قصة أسطورية. تحتوي الملوخية على نسبة كبيرة من الألياف التي نظم الهضم وتخفف من أوجاع القولون العصبي. ومثل باقي الأوراق الخضراء، فإن أوراق الملوخية تحتوي على كمية كبيرة من الحديد الذي يقي من فقر الدم. تحتوي الملوخية أيضاً على البوتاسيوم وهو عنصر في غاية الأهمية بالنسبة إلى صحة القلب وضغط الدم.

أطيب التمنيات

كما ذكرنا أن نسبة الألياف العالية في أوراق الملوخية تساعد على صحة الجهاز الهضمي فإن هذه الألياف تساعد أيضاً على تقليل مستوى الكوليسترول الضار وبالتالي تساعد على صحة القلب، نظرياً...

طريقة طهي الملوخية

صورة من wikipedia

بعد ذكر كل هذه الفوائد لابد أن نستنتج أن الملوخية أكلة مفيدة للغاية، ولكم للمصريين إضافات أخرى وآراء أخرى.

الطريقة التقليدية المصرية لطهي الملوخية تتلخص في هذه النقاط:

غسل وتجفيف أوراق الملوخية وخرطها بآلة المخرطة. (لقد اندثرت هذه الآلة بين الأجيال الجديدة التي تستعمل الملوخية المجمدة المخرطة مسبقاٍ)

تحضير شوربة من مرق الدجاج أو اللحم أو الطيور وإضافة أوراق الملوخية للشوربة.

وفي هذه الخطوة يكمن سر من أسرار الملوخية الناجحة و هو ما يسمى ب "العرق". العرق هو القوام المطلوب للملوخية فإذا زادت كمية ماء الشوربة أكثر من المطلوب أصبحت الملوخية سائلة وفقدت ذلك "العرق". ويعرف القوام المثالي للملوخية بوضع بعض من الملوخية بعد تحضيرها في ملعقة ورفع الملعقة لمسافة قصيرة عن الطبق فإذا انفصلت تماماً عن الطبق فهي ملوخية غير ناجحة. أما إذا وجدنا بين الملعقة وطبق الملوخية خطاً سائلاً من الملوخية فهذا دليل على قوامها الجيد ووجود "العرق" المطلوب.

هذه الخطوة هي الخطوة الأكثر خطورة وهي تحضير "الطشة" أو كما يسميها البعض "التقلية"

طشة الملوخية هي عبارة عن الزبدة أو السمن مع الثوم والكزبرة الناشفة. في هذه الخطوة يقرر كل مصري ما إذا كان يريد أن يستفيد بفوائد الملوخية لصحة القلب أو يقرر إضافة كميات مهولة من السمن فيفقد هذه الفائدة!

ولأن الملوخية هي قصة وتجربة كاملة وليست مجرد أكلة شهية ذات قيمة غذائية مرتفعة، فبالطبع طريقة الطهي تبعد كل البعد عن العادية. تكاد تكون الملوخية هي الأكلة الوحيدة التي لها صوت. هذا الصوت هو "الشهقة".

شهقة الملوخية

صورة من unsplash

الشهقة هو شهيق عميق يؤخذ بفم مفتوح وبصوت عال. هذه الشهقة هي من العادات المصرية التي لا تزال خالدة حيث إن المصريين يعتقدون أن الملوخية لا تكون لذيذة أبداً إلا إذا أصدر طاهيها صوت الشهقة عند إضافة الطشة إلى الملوخية.

وبالطبع لهذه الشهقة حكاية!

الأسطورة الأولى لسر الشهقة يعود إلى أحد قصور حكام مصر قديماً وكان يعرف عن ذلك الحاكم سرعة غضبه وأن تأخير الأكل يفقده أعصابه. وفي يوم من الأيام كان أحد الطهاة في القصر يعد الملوخية للملك وتأخر قليلاً ففتح أحد حراس الملك الباب بقوة ليستعجل الطاهي فشهق الطاهي من خوفه. يقال أن الملوخية في ذات اليوم كانت من أجمل المرات التي أكل فيها الملك الملوخية فأرجع من في القصر السبب إلى الشهقة لأنها الشيء الوحيد المختلف الذي حدث في ذلك اليوم لأنه كان نفس الطاهي يحضرها كل مرة و مستخدماً ذات الخامات؛ فقط أضاف الشهقة.

القصة الثانية تعود إلى امرأة عادية كانت تحضر الملوخية لأسرتها وعندما أمسكت الطاسة التي كانت قد حضرت بها الطشة لتنقلها إلى الملوخية مالت منها الطاسة وكادت أن تسقط فشهقت المرأة خوفاً ونجحت في استعدال الطاسة وأنقذت الطشة. وبالطبع كانت يومها الملوخية ألذ من أي يوم سبق؛ غالباً بسبب الشهقة!

منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا ترفض الأمهات طهي الملوخية بدون الشهقة الشهيرة. أغلبهن لم و لن تغامرن أبداً و تجرب تحضيرها بدون الشهقة. حتى إن لم تؤثر على الطعم، لن يتنازل المصريون عن إرثهم من العادات اللطيفة التي تجعل للحياة في مصر مذاق خاص جداً.

هل تحضر الملوخية بنفس الطريقة في كل أنحاء مصر؟

صورة من unsplash

مصر هي بلد كبير جداً مترامي الأطراف ولكل منطقة في مصر عاداتها، تقاليدها، لكنتها، وبالطبع ملوخيتها. حتى إذا كنت مصرياً أصيلاً ولم تخرج من مصر طيلة حياتك فأنت في الأغلب لم تذق كل أنواع الملوخية. ففي القاهرة والإسكندرية والدلتا تحضر الملوخية من الأوراق الخضراء المخرطة بالطريقة التي قد سبق أن ذكرناها. أما عن أهل الصعيد فيحبون ملوخيتهم، كما يحبون الشاي، داكنة. لذلك يستعمل أهل الصعيد أوراق الملوخية المجففة في الشمس فتفقد الأوراق اللون الأخضر الفاتح وتصبح داكنة وتعطي طعماً مختلفاً تماماً عن الملوخية المحضرة بالأوراق الطازجة. وهناك طريقة أخرى يمتاز بها أهل الصعيد ويسمونها "شلولو" أو "الملوخية الباردة" وهي عبارة عن أوراق الملوخية المحضرة بدون حرارة مع الماء البارد مع إضافة الشطة الحارة والليمون. وهذه الأكلة هي من الأكلات الصعيدية سهلة التحضير التي تحضرها المرأة في أي مكان نظراً لأنها لا تحتاج إلى نار أو وقود أو أي معدات خاصة لتجهيزها. أما عن أهل النوبة فيأكلون الملوخية بطريقة أخرى. لا يخرط أهل النوبة أوراق الملوخية ولكن يضيفون إليها البامية المجففة وتفرك بأداة نوبية أصيلة تسمى "المفراك".

كيف تقدم الملوخية؟

صورة من unsplash

كما أن الملوخية تحضر بطرق مختلفة فهي أيضاً تقدم بطرق مختلفة. الملوخية هي أحب الأكلات لدى الأطفال المصريين وذلك ليس فقط لطعمها الشهي، ولكن لسهولة بلعها. من أكثر الأكلات المفيدة للأطفال والتي تحضرها الأمهات لأطفالهم بعد الفطام مباشرة هي الملوخية والأرز والأرانب حيث أن الملوخية تلتصق في الأرز و تقطع معهم لحم الأرانب لقطع صغيرة جداً فتصيح وجبة مفيدة و متكاملة بها كل العناصر الغذائية من بروتين و دهون و كربوهيدرات.

أما عن "الشلولو" ولأنه أكلة سهلة كما ذكرنا، فتحضره المرأة الصعيدية في يوم الخبز لضيق وقتها. فيقدم طبق الشلولو البارد مع الخبز الشمسي الساخن الطازج. وكثير من المصريين يفضل "تغميس" الملوخية بالعيش بما يسمى ب "ودن القط" حيث يقطع جزء صغير من الخبز ويمسك مثل قرطاس صغير كودن القطة ليحتوي الملوخية.

صورة من unsplash

الملوخية هي تراث شعبي مصري أصيل يجتمع على حبه الصغير والكبير، والغني والفقير. للملوخية، كما لأغلب الأشياء في مصر، قصص وأساطير وتاريخ وعادات وتقاليد، ولكن الأهم هو تجمع العائلات والجيران والأصدقاء حول هذا الطبق الغير العادي الذي يشهد أحاديث و قصص جديدة كل يوم منذ مئات الأعوام إلى اليوم متوجاً موائد المصريين.

المزيد من المقالات