ديرينكويو: المدينة تحت الأرضيّة الغامضة التي تمّ العثور عليها في قبو رجل

بعد مليارات السنين من التآكل المستمرّ، تبدو منطقة كابادوكيا في وسط تركيا وكأنّها عالم سحريّ في قصّة خياليّة. هنا، ترتفع تلال صخريّة وأبراج حجريّة تسمّى "المداخن الخياليّة" من السهول المتربة في شبه جزيرة الأناضول، بينما تتعرّج الأنفاق الملتفّة في الأسفل. العديد من تلك الأنفاق طبيعيّ. ولكنّ بعضها من صنع الإنسان. في عام 1963، قام رجل تركي بهدم جدار في قبو منزله الواقع في كابادوكيا أثناء تجديده، وفوجئ بالعثور على غرفة أخرى كاملة خلفه. وكشف المزيد من الحفر عن متاهة من الغرف على عمق عدة مئات من الأقدام تحت الأرض. كانت هذه هي مدينة ديرينكويو تحت الأرضيّة، وهي منحوتة في مادة التوف، وهي نفس الصخور البركانيّة الطريّة التي تنشأ فوق الأرض وتأخذ أشكالاً ساحرة. إليك كلّ ما تحتاج معرفته حول هذه المدينة القديمة الرائعة، والتي تقع على عمق 300 قدم تقريباً تحت الأرض.

أصول مدينة ديرينكويو تحت الأرضيّة:

تمتدّ مدينة ديرينكويو حتّى عمق 280 قدماً تقريباً تحت الأرض، وتضمّ ما يصل إلى 18 طابقاً، وهي كبيرة بما يكفي لإيواء 20 ألف شخص. وبينما لم يُستكشَف إلّا 2000 قدم مربّع فقط من ديرينكويو حتى الآن، يقول موقع كابادوكيا السياحيّ إنّ المدينة قد تمتدّ إلى ما يصل إلى 7000 قدم مربّع.

وفقاً لموقع Ancient Origins، فإنّ الأصل الدقيق والغرض من المدينة تحت الأرضيّة غير معروفين. تشير تقديرات وزارة الثقافة التركيّة إلى أنّ بناء المدينة يعود إلى حوالي 2800 سنة مضت، على يد مجموعة من الأشخاص المعروفين باسم الفريجيّين، وهم شعب هندو-أوروبي من العصر الحديديّ اشتهروا بمهاراتهم كمهندسين معماريّين.

وأوضح أندريا دي جيورجي، الأستاذ المساعد في الدراسات الكلاسيكيّة بجامعة فلوريدا الحكوميّة الأمريكيّة، لمحطّة بي بي سي: "كانت الفريجيّون إحدى أبرز الإمبراطوريّات المبكّرة في الأناضول". "لقد نشؤوا في منطقة غرب الأناضول في نهاية الألفيّة الأولى قبل الميلاد وكان لديهم ميل إلى تخليد التكوينات الصخريّة وإنشاء واجهات صخريّة رائعة. وعلى الرغم من كونها قصيرة الأمد، إلّا أنّ مملكتهم امتدّت لتشمل معظم غرب ووسط الأناضول، بما في ذلك منطقة ديرينكويو".

ولكن على الرغم من أنّ الفريجيّين ربّما بنوا المدينة في البداية، إلا أنّها وُسِّعت لاحقاً خلال العصر البيزنطيّ، على الأرجح من قبل المسيحيّين الذين كانوا يتجنّبون الاضطهاد الدينيّ.

تدعم الكنائس الموجودة في الطوابق السفليّة من ديرينكويو هذه النظريّة. في الواقع، استُخدمت المدينة وأنفاقها لغرض مماثل في القرن العشرين، عندما عاد أولئك الذين يتجنّبون اضطهاد الإمبراطوريّة العثمانيّة ليختبئوا من جديد تحت سطح الأرض.

ومع ذلك، هناك نظريّات بديلة فيما يتعلّق بأصول ديرينكويو. افترض بعض المؤرّخين أنّ المدينة بناها الحثيّون الأناضول في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، كوسيلة للهروب من أعدائهم. واقترح آخرون أنّ الكهوف تشكّلت في نفس الوقت الذي تشكّل فيه معبد غوبيكلي تيبي (Göbekli Tepe) الغامض، خلال تبرّد درياس الأصغر (Younger Dryas) منذ حوالي 14500 عام.

تشير هذه النظريّة إلى أنّه نتيجةً لتفكّك مذنّب داخل الغلاف الجوّيّ للأرض، فإن الغبار والسخام الذي انبعث منه

حجب الشمس لعدّة أشهر، ما قاد العالم إلى عصر جليديّ. ولذلك، بدأ البشر القدماء بالعيش تحت الأرض لتجنّب المناخ البارد في الأعلى.

ربّما ليس من المستغرب أن تأتي نظريّة أخرى لتنسب إنشاء المدينة تحت الأرضيّة إلى كائنات فضائيّة. باختصار، إما أنّ كائناتٍ فضائيّة قامت ببناء المدن تحت الأرضيّة ثمّ هجرتها، أو أنّ البشر أنشؤوها للاختباء من الكائنات الفضائيّة الغازية.

لكنّ هذه النظريّات الأخيرة غير مقبولة بشكل عامّ من قِبل الجزء الأكبر من المجتمع العلميّ.

الحياة داخل مدينة ديرينكويو الجوفية

يبدو أنّ الكبادوكيّين عاشوا تحت الأرض حياة مُرضية مثل تلك التي عاشوها في الأعلى. تمّ تجهيز ديرينكويو بمكابس النبيذ والزيت والإسطبلات والأقبية وغرف التخزين وقاعات الطعام والمصليات. من المحتمل أنّه تمّ استخدام عمود تهوية ضخم يبلغ ارتفاعه 180 قدماً كبئر، كما أنّ العشرات من أعمدة التهوية الأخرى جلبت الأكسجين إلى أولئك الذين يعيشون في الأسفل.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

وبحسب ما ورد، كان في ديرينكويو مدارس دينيّة ودراسات للطلّاب. في الطابق السفليّ كانت توجد كنيسة صليبيّة الشكل منحوتة مباشرة في الصخر.

تمّ تصميم كلّ مستوى من مستويات المدينة بدقّة لاستخدام محدّد. في المستويات العليا، كان الكبادوكيّون يربّون الماشية لتجنّب الغازات السامّة والرائحة التي تنتجها الماشية قدر الإمكان. وكانت الماشية أيضاً بمثابة طبقة عازلة حيّة، وهو ما كان يساعد في إبقاء المدينة دافئة في الأشهر الباردة.

تحتوي الطبقات الداخليّة للمدينة على العديد من المرافق، بما في ذلك المنازل والأقبية والمدارس ومناطق للاجتماعات وحتى مصنع نبيذ. يبدو أنّ ديرينكويو لم تكن تُستخدم كمأوى مؤقّت؛ بل كان أولئك الذين سكنوا كهوفها مجهّزين لقضاء أشهر أو حتّى سنوات في الداخل.

لكنّ المدينة لم تكن خالية من العيوب. فبسبب وجودها تحت الأرض، كان من الصعب زراعة المحاصيل، وكان عدم وجود نظام سباكة يعني أنّ معظم سكّان ديرينكويو اضطرّوا لقضاء حاجتهم في جرار فخّاريّة.

كيف كان العيش تحت الأرض يحمي سكان ديرينكويو

صورة من Wikimedia

كانت ديرينكويو تؤدّي أيضاً غرضاً دفاعيّاً استراتيجيّاً. فالممرّات الضيّقة صعّبت على الغزاة السير في تشكيلات، وكان من السهل على السكان استخدام أبواب حجريّة ثقيلة لإغلاق الممرّات. من جهة أخرى، كانت الإضاءة

الخافتة لتجعل من الصعب على الغزاة الرؤية، في حين أنّ أولئك الذين يعيشون في المدينة تحت الأرض كانوا أكثر دراية بظلامها.

من المحتمل أن تكون هذه المزايا هي التي جعلت الفريجيّين القدماء أوّل من عاش تحت الأرض، ثمّ ــــــ لاحقاًـــــ حلّ محلّهم الفرس ومسيحيّو العصر البيزنطيّ وغيرهم ممّن يبحثون عن الأمان تحت الأرض.

تفيد تقارير IFLScience أنّه في عام 1909، ربّما تكون المذبحة التي راح ضحيّتها حوالي 30 ألف أرمنيّ مسيحيّ في مدينة أضنة هي التي دفعت المسيحيّين الكبادوكيّين تحت الأرض من جديد. في عام 1923، طُرد معظم المسيحيّين من المنطقة في تبادل سكّانيّ بين اليونان وتركيا، في محاولة للتخلّص من الأقلّيّات الدينيّة في كلّ من البلدين.

بعد ذلك، بقيت ديرينكويو دون إزعاج حتّى عام 1963، عندما أُعيد اكتشاف المدينة تحت الأرضيّة المذهلة في وسط تركيا وتمّ تسليط الضوء عليها أخيراً.

المزيد من المقالات