العالم المفقود في سقطرى: أكثر الأماكن غرابة على وجه الأرض

تُعد جزيرة سقطرى، البعيدة والمعزولة في أعماق بحر العرب، ملاذًا طبيعيًا مذهلًا ومثيرًا للدهشة، حتى أن الكثيرين يصفونها بأنها قطعة من عالم آخر سقطت بالخطأ على كوكب الأرض. تمتاز هذه الجزيرة بسحرها الفريد وتنوعها البيئي اللافت، حيث تتجلى فيها مظاهر الطبيعة الخام التي لم تمسّها يد الإنسان منذ آلاف السنين. فقد امتزجت الطبيعة في سقطرى بمعجزة التطوّر عبر ملايين السنين، مما أنتج منظومات حيوية لا شبيه لها، سواء في شكل النباتات أو تنوّع الحيوانات أو تكوينات الصخور الغريبة. وبفضل هذا التفرّد، تُعد سقطرى واحدة من أهم الجزر البيئية في العالم وأكثرها غرابة وجاذبية.

بواسطة أندرو سفيك المصدر: أنسبلاش

🌍 الموقع الجغرافي والجغرافيا التاريخية

تقع سقطرى ضمن أرخبيل مكوّن من أربع جزر صغيرة في المحيط الهندي، تبعد حوالي 250 كم إلى الشرق من القرن الإفريقي و340 كم جنوب اليمن. تُصنّف الأبحاث الجيولوجية سقطرى على أنها جزء من القارة الهندية التي انفصلت عن قارة قندوانا منذ أكثر من 6 ملايين عام. هذا الانعزال الجيولوجي الطويل خلق بيئة ومعادن ونسل متفردة تطوّرت على نحو مستقل دون تداخل مع قارات أخرى.

لماذا تبدو سقطرى كمدينة على كوكب فضائي؟

البيئة والمناخ

تبدو جزيرة سقطرى وكأنها مدينة على كوكب فضائي بسبب مزيجها الفريد من العوامل الطبيعية والبيئية التي لا مثيل لها على وجه الأرض. أولًا، البيئة والمناخ في الجزيرة يساهمان في رسم صورة غريبة وساحرة؛ فالمناخ جاف وحار على مدار السنة، مع أمطار نادرة، ما يمنح الجزيرة طابعًا شبه صحراوي. أما السواحل البيضاء الممتدة، فتتقاطع مع صحارى حجرية وهضاب من الحجر الجيري، تنتشر فيها الكهوف الطبيعية العميقة والأحواض المائية الزرقاء، مما يخلق مشهدًا جيولوجيًا يبدو وكأنه غير مألوف للعين البشرية.

التنوع البيولوجي

التنوع البيولوجي الفريد في سقطرى يضفي عليها هالة من الغرابة الطبيعية. إذ تحتضن الجزيرة أكثر من 825 نوعًا نباتيًا، منها 307 أنواع لا توجد في أي مكان آخر في العالم، بنسبة 37% من النباتات مستوطنة حصرًا فيها. كذلك، فإن 90% من الزواحف و95% من القواقع الأرضية التي تعيش على أرض سقطرى لا توجد خارجها، ما يجعل نظامها البيئي مغلقًا وخاصًا للغاية. هذه النسب العالية من الأنواع المستوطنة تعني أن تطور الحياة على الجزيرة اتخذ مسارًا مستقلًا تمامًا، دون تأثير يُذكر من القارات الأخرى. كل هذه العوامل، مجتمعة، تجعل من سقطرى مشهدًا طبيعيًا يشبه ما قد نتخيله عند التفكير في الحياة على كوكب آخر، حيث تختلف أشكال الحياة والتضاريس عن المألوف، وكأنها مشهد خيالي توقف فيه الزمن منذ ملايين السنين.

نباتات ساحرة في جزيرة سقطرى.. بين العلم والأسطورة

🌳 شجرة دم التنين (Dracaena cinnabari)

تُعرف شجرة "دم التنين" الشهيرة في جزيرة سقطرى بهذا الاسم الغريب نظرًا لراتينجها الأحمر الداكن الذي يسيل منها عند قطع جذعها أو فروعها، والذي يشبه لون الدم، ما دفع سكان العصور الوسطى للاعتقاد بأنها تنزف دم تنين حقيقي، ومن هنا جاء اسمها الأسطوري. تنتمي هذه الشجرة الفريدة إلى نوع Dracaena cinnabari، وتُعد من أبرز رموز الجزيرة وأكثرها جذبًا للانتباه بسبب شكلها الغريب والفريد.

تمتاز شجرة دم التنين بهيكل مظلّي خارق، حيث تنتشر فروعها على شكل قبة مقلوبة، مما يساعدها على التقاط الرطوبة من الضباب والندى، وهو أمر حيوي لبقائها في المناخ الجاف والقاسي الذي يهيمن على سقطرى. كما أن هذا الشكل الطبيعي يحميها من أشعة الشمس الحارقة ويقلل من تبخر الماء. وتُعد هضبة ديكسام المرتفعة الموطن الرئيسي لهذه الأشجار، حيث تنمو فوق الصخور وتكوّن غابات متناثرة خلابة تشبه المشاهد الخيالية.

أما الراتينج الأحمر، فقد كان له استخدامات عديدة عبر التاريخ؛ فقد استُخدم كصبغة نادرة ولامعة، وكمادة لطلاء الأخشاب، وفي إنتاج العقاقير العلاجية، وكذلك كحبر فاخر استخدمه الفنانون والنساخ في القرون الماضية. كما دخل الراتينج في تركيب بعض المواد الطبية والإفراغية التقليدية، خاصة في الطب العربي والهندي القديم.

ورغم جمالها وقيمتها الطبيعية والتاريخية، فإن شجرة دم التنين تُعد اليوم من الأنواع المهددة بالانقراض. فبسبب التغير المناخي، وانخفاض كميات الأمطار، بالإضافة إلى الرعي المفرط الذي يمنع نمو الشتلات الجديدة، باتت الشجرة تواجه خطر الانقراض التدريجي. ولهذا فهي بحاجة ماسّة إلى جهود حماية صارمة تشمل منع الرعي الجائر، ومراقبة نموها، وإعادة تشجيرها في بيئتها الطبيعية، للحفاظ على هذا الكنز النباتي الفريد الذي لا يوجد في أي مكان آخر في العالم سوى في سقطرى.

بواسطة أندرو سفيك - المصدر: وأنسبلاش

🌵 🌵 وردة الصحراء وشجرة القار: تحف تطوّرية مذهلة في قلب سقطرى

لا تقتصر غرابة جزيرة سقطرى على شجرة دم التنين فقط، بل تمتد لتشمل مجموعة أخرى من النباتات التي تبدو وكأنها جاءت من كوكب آخر. من أبرز هذه النباتات وردة الصحراء، وهي نبتة تتميز بشكلها الفريد الذي يشبه وعاءً مملوءًا بالماء. إذ تطورت هذه النبتة لتكون قاعدتها وجذعها منتفخَين بشكل واضح، ما يمكّنها من تخزين كميات كبيرة من الماء داخل أنسجتها، وهو ما يمنحها القدرة على التكيف مع البيئة القاحلة والجافة التي تسود الجزيرة.

إلى جانب وردة الصحراء، تنمو في سقطرى نباتات صغيرة وغريبة تُعرف محليًا باسم شجرة القار، وهي نباتات ذات جذوع سميكة وأوراق ضامرة، تشبه إلى حد كبير الخيار المنكمش أو النباتات الصحراوية القزمية. وتُعد هذه الأنواع من النباتات دليلًا حيًا على عبقرية التطوّر في مواجهة تحديات الطبيعة؛ إذ ساعدها التكيّف البيئي على تطوير هياكل تخزين مائية في الجذوع والجذور، مما يضمن بقاءها لفترات طويلة دون الحاجة إلى مياه متجددة.

إن وجود هذه النباتات الغريبة، ذات الأشكال الاستثنائية والتراكيب التكيفية المعقّدة، هو ما يجعل سقطرى واحدة من أكثر الأماكن إثارة للاهتمام من الناحية البيولوجية والبيئية، وكأنها مختبر مفتوح لتجارب الطبيعة التي طوّرت الحياة بطريقتها الخاصة والفريدة.

التنوع الحيواني: زواحف، طيور، وقواقع فريدة

  • تضم سقطرى حوالي 34 نوعًا من الزواحف، منها 90% مستوطن محليًّا
  • السّكانيات الأرضية، بما فيها القواقع والكائنات الصغيرة، تمثل 95% من الأنواع المستوطنة.
  • تدعم الجزيرة أيضًا طيورًا نادرة ومهاجرة ضمنها 44 نوعًا تفرّخ فيها بانتظام من أصل 192، وهو مؤشر على قيمة بيئية عالمية.

سحر التاريخ والثقافة السقطرية

  • الاسم "سقطرى" مشتق من سانسكريت قديم يعني  “جزيرة النعيم”.
  • يقطنها حوالي 50 ألف نسمة، يتحدثون لغة سقطرية فريدة تُعد إحدى أقدم اللغات العربية الجنوبية.
  • شهدت الجزيرة تفاعلًا تاريخيًا واسعًا مع حضارات متعددة: ازدهرت فيها التجارة عبر البحر الأحمر منذ القرن الأول الميلادي،      وعُثر على نقوش بلغات مثل البرميلينية واليونانية.

إنسان سقطرى: تقاليد تحافظ على التنوع

عاش سكان سقطرى طويلاً بانسجام مع بيئتهم، يتبعون نهجًا قيّمًا في الرعي والزراعة التقليدية:

  • تربية الماشية تحت قيود صارمة للحد من الرعي الجائر.
  • استخدام محدود لقطع الأخشاب لأغراض محددة.
  • التقاط الراتينج والألبان والبخور بشكل موسمي ومستدام.

باختصار، كانت جزءًا لا يتجزأ من منظومة بيئية متكاملة حافظت على توازن مذهل بين الإنسان والطبيعة.

بواسطة أندرو سفيك - المصدر: أنسبلاش

التحديات والتهديدات

على الرغم من هذا التوازن، تواجه الجزيرة اليوم تحديات كبيرة:

  1. الرعي المفرط: يزيد من قضم نباتات مهمة مثل شجرة دم التنين، مما يُضعف التجدد الطبيعي.
  1. التغيّر المناخي: التغير في أنماط المطر وارتفاع الحرارة يقضي على مواطن النبات الحساسة.
  2. الحياة العصرية والزحف العمراني: دخولالكهرباء، الطرق، والسياحة يزيد الضغط على البيئة الفضائية الاستثنائية.
  3. الحرب الأهلية في اليمن: أدّت إلى ضعف الإمكانات الحكومية، وتدهور أنظمة الحماية البيئية.

جهود الحماية والمحافظة

تبذل جهود محلية ودولية للحفاظ على تراث سقطرى الطبيعي:

  • حاليًا تُزرع أغلب شجيرات دم التنين في مشاتل خاصة، وتُحمي من الماشية في مراحل نموها
  • تضمّد شراكات بين السكان المحليين وجامعات ومدارس أهلية لحماية التنوع البيولوجي endemic species.
  • تم إدراج سقطرى كموقع تراث عالمي من قبل اليونيسكو عام 2008، نظراً لقيمتها البيئية الفريدة.
  • بلدان مشارِكة في جُلٍّ النموذج مثل نيوزيلندا وفنلندا– توفر دعماً لمحمية روكيب دي فيرمين التي تعد أكبر موطن لشجرة دم      التنين.

الزائر لجزيرة سقطرى اليوم يتوقع:

  • مناظر خيالية: من شواطئ بيضاء، لبحيرات داخلية  نقية، إلى سهول حجرية تضم أشجار مظلية تبدو خارج حدود البشرية.
  • حضارة طبيعية متجانسة: سكان يدمجون بين التقاليد الأصيلة وتقنيات المحافظة على البيئة.
  • سياحة بيئية محدودة: رغم الصعوبة في الوصول إلا أنّ لدى سقطرى فرصًا فريدة لعشاق الطبيعة والحياة البرية.
بواسطة أندرو سفيك - المصدر: أنسبلاش

خلاصة

تجسد سقطرى تجربة نادرة على الأرض: مزاج جغرافي ومعجزة تطورية لم تمتد إليه يد التدخل البشري حتى عهد قريب. تشكّل شجرة دم التنين رمزًا مذهلًا للتفاعل بين الحياة البرية والبشر، بإرثها الأسطورى وطابعها المعرفي.

اليوم، يقف هذا الأرخبيل في مفترق طرق. يحدوه الحُبّ للخير والتقدير العميق لجماله الغريب، ودافع صمود المتعصبين لحمايته من انحلال التوازن. إن كنت تبحث عن نكهة مشوّقة للزهور البرية، لشمس متوهجة، أو لغموض ملعب التطوّر، فإن "العالم المفقود" في القلب من البحر العربي ينتظرك.

أكثر المقالات

toTop