هل يُمكن إنماء خلايا دماغية جديدة؟ تُشير أبحاث جديدة إلى إجابة نهائية لهذا الجدل العلمي المُستمر

لعقود، كان يُعتقد أن الدماغ البشري ثابت إلى حد كبير بعد مرحلة الطفولة المُبكرة، حيث تبقى مليارات الخلايا العصبية فيه ثابتة ومُقدّر لها أن تتراجع مع التقدم في السن. وقد أكدت هذه الفكرة - المُتجذرة في الأدبيات العلمية والمعتقدات العامة - أنه بمجرد موت خلايا الدماغ (العصبونات)، فإنها تختفي إلى الأبد. إلا أن التطورات العلمية الحديثة قلبت هذا الرأي رأساً على عقب. فقد كشفت الإنجازات في علم الأعصاب، وعلم الأحياء الجزيئي، والطب التجديدي عن إمكانية إنماء خلايا دماغية جديدة، حتى في مرحلة البلوغ - وهي عملية تُعرف باسم تكوين الخلايا العصبية. يستكشف هذا المقال التطور التاريخي لهذا الجدل، وبيولوجيا إنماء الخلايا، والأبحاث الحديثة حول تجديد خلايا الدماغ، والتطبيقات المُستقبلية لتقنيات إنماء الخلايا، والتي تُتوج بالإجماع العلمي الحالي.

الصورة بواسطة John Schmidt على wikipedia

الخلايا الظهارية في المزرعة، ملطخة بالكيراتين (أحمر) والحمض النووي (أخضر)

1. تاريخ نمو الخلايا ونشأته.

بدأت رحلة فهم نمو الخلايا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصةً بعد إعلان ثيودور شوان عام 1839عن نظرية الخلية، ونظرية سانتياغو رامون إي كاخال الرائدة في مجال الخلايا العصبية. كتب كاخال مقولته الشهيرة: "في دماغ البالغين، تكون مسارات الأعصاب ثابتة، منتهية، وغير قابلة للتغيير. كل شيء قد يموت، ولا شيء قد يتجدد."

الصورة على wikipedia

خلايا مزروعة تنمو في وسط نمو

لم يتحدَّ عالم الأعصاب الأمريكي جوزيف ألتمان هذا الاعتقاد إلا في ستينيات القرن الماضي، بتحديد خلايا عصبية جديدة في أدمغة الفئران البالغة (ألتمان وداس، 1965). قوبلت أعماله برفض واسع النطاق بسبب الاعتقاد السائد ومحدودية تقنيات التصوير. عاد هذا المفهوم للظهور في التسعينيات مع تطوير المجهر متحد البؤر وتقنيات وسم الخلايا مثل BrdU(بروموديوكسي يوريدين)، مما سمح للعلماء بتتبع ولادة خلايا جديدة.

2. تطور فهم نمو الخلايا.

شهد فهم تجديد الخلايا توسعاً ملحوظاً مع ثورة الخلايا الجذعية. عُزلت الخلايا الجذعية - القادرة على التمايز إلى أنواع خلايا متخصصة - لأول مرة في الفئران عام 1981، وفي البشر عام 1998. كشف اكتشافها عن إمكانية تحفيز خلايا معينة لتجديد الأنسجة التالفة، بما في ذلك خلايا القلب والكبد والجلد.

بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحول الاهتمام إلى الجهاز العصبي، حيث بدأ الباحثون بتحديد الخلايا الجذعية العصبية (NSCs) في مناطق دماغية محددة. برز الحُصين والمنطقة تحت البطينية كمناطق رئيسية يحدث فيها تكوين الخلايا العصبية لدى البالغين.

نظرة اقتصادية: من المتوقع أن يصل حجم سوق العلاج بالخلايا الجذعية العالمي إلى 30.1 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، حيث تُشكل العلاجات التجديدية العصبية شريحةً كبيرةً منه.

الصورة على wikipedia

زجاجة من وسط زراعة الخلايا DMEM

3. التطورات الحديثة في زراعة الخلايا.

أحدثت الاكتشافات التكنولوجية نقلةً نوعيةً في القدرة على زراعة الخلايا والتحكم بها:

العضيات: تُحاكي هياكل الدماغ الصغيرة المزروعة من الخلايا الجذعية نمو الدماغ، وتُقدم نموذجاً جديداً لأبحاث تكوين الخلايا العصبية.

• مكّن تعديل الجينات بتقنية كريسبر-كاس9 من التحكم بالجينات التي تُنظم نمو الخلايا وإصلاحها.

• ساعد تسلسل الحمض النووي الريبوزي أحادي الخلية في تصنيف أنواع الخلايا وتتبع سلالاتها التطورية.

في عام 2019، قدمت دراسة رئيسية أجراها بولدريني وآخرون (جامعة كولومبيا) أدلةً على استمرار تكوين الخلايا العصبية الحُصينية لدى كبار السن، مما يُشير إلى أن تراجع الذاكرة المرتبط بالعمر ليس أمراً حتمياً.

4. أنواع الخلايا التي يمكن زرعها وفئاتها.

الخلايا التي يمكن زرعها:

الخلايا الظهارية: أنسجة الجلد والبطانة، سهلة الزراعة في المختبر.

الخلايا المكونة للدم: خلايا الدم المشتقة من الخلايا الجذعية لنخاع العظم.

الخلايا الكبدية: يُعد تجديد الكبد ظاهرة طبيعية وموثقة جيداً.

الخلايا القلبية: ثبت مؤخراً أنها تتجدد بعد احتشاء عضلة القلب باستخدام العلاج بالخلايا الجذعية.

الخلايا الجذعية العصبية: قادرة على التمايز إلى خلايا عصبية، وخلايا نجمية، وخلايا قليلة التغصن.

نظرة إحصائية: وفقاً للمعهد الوطني للصحة، تُجرى حالياً أكثر من 80 تجربة سريرية باستخدام الخلايا الجذعية العصبية المزروعة لعلاج مرض باركنسون، والتعافي من السكتات الدماغية، وإصابات الحبل الشوكي.

5. خلايا يصعب نموها.

تظل بعض الخلايا مقاومة للتجدد أو الزراعة الاصطناعية:

خلايا بيتا البنكرياسية(المنتجة للأنسولين): يصعب تكاثرها بشكل مستقر خارج الجسم.

خلايا الشبكية: على الرغم من التقدم المحرز، إلا أن استعادة البصر بالكامل لا تزال معقدة.

الخلايا العصبية القشرية الناضجة: بمجرد اكتمال نموها، تقل احتمالية تجددها لدى البالغين خارج البيئات العصبية.

علاوة على ذلك، فإن الرفض المناعي، وخطر الطفرات، ومحدودية دعم السقالة، تُعقّد نمو بعض أنواع الخلايا المتخصصة.

6. تطبيقات مُتطورة لزراعة الخلايا.

تُستخدم الخلايا المُزروعة أو المُجدّدة الآن في:

• ترقيع الجلد لضحايا الحروق.

• زراعة نخاع العظم لمرضى سرطان الدم.

• إصلاح القلب بعد الاحتشاء.

• إعادة التأهيل العصبي (مثلًا، في مرض باركنسون وإصابات الحبل الشوكي).

• الاختبارات الدوائية باستخدام عُضويات مُزروعة في المختبر.

البيانات الاقتصادية: من المتوقع أن يتجاوز سوق الطب التجديدي 150 مليار دولار أمريكي عالمياً بحلول عام 2035.

الصورة يواسطة Ayda P على wikipedia

تمثيل تخطيطي لزراعة ثنائية الأبعاد، وزراعة ثلاثية الأبعاد، ودراسة عضو على رقاقة، ودراسة في الجسم الحي

7. هل يُمكن زراعة خلايا الدماغ؟

نعم، ولكن مع بعض المُحاذير. تم تأكيد تكوين الخلايا العصبية في مناطق مُحددة من الدماغ مثل:

التلفيف المُسنّن للحُصين: مُرتبط بالتعلم والذاكرة.

المنطقة تحت البطينية: تُغذي البصلة الشمية بالخلايا العصبية (خاصةً لدى القوارض).

ومع ذلك، لا يزال تجديد الخلايا العصبية القشرية على نطاق واسع أمراً بعيد المنال. ومع ذلك، فقد أظهرت خلايا الدماغ المزروعة في المختبر من الخلايا الجذعية متعددة القدرات المُستحثة (iPSCs) والعضيات الدماغية نجاحاً جزئياً في محاكاة السلوك العصبي.

الصورة على livescience

يحدث التخليق العصبي أو تشكُّل أعصاب جديدة قبل الولادة، لكن بعض الأدلّة تقترح أنه يمكن أن يستمر على مدى العمر

8. الجدل حول نمو خلايا الدماغ.

على الرغم من تراكم الأدلة، واجه هذا المجال جدلاً حاداً:

المؤيدون: يستشهدون بدراسات مثل إريكسون وآخرون (1998) وبولدريني وآخرون (2018) التي تدعم تكوين الخلايا العصبية الحُصينية مدى الحياة.

المشككون: يشيرون إلى سوريلز وآخرون (2018)، الذين ادّعوا حدوث انخفاض حاد في تكوين الخلايا العصبية بعد الطفولة.

ينشأ هذا التناقض من الاختلافات المنهجية، وجودة حفظ الأنسجة، وحساسية التصوير.

9. أبحاث جديدة والإجابة النهائية حول نمو خلايا الدماغ.

في عام 2023، أجرت دراسة تجميعية بارزة أجراها معهد ألين لعلوم الدماغ وجامعة ستانفورد فحصت أكثر من 40 دراسة، وخلصت إلى أن: "تكوين الخلايا العصبية الحُصينية لدى البالغين عملية محفوظة ومستمرة لدى أنواع الثدييات، بما في ذلك البشر، مع تباين يتحدد حسب العمر والبيئة والصحة".

علاوة على ذلك، حدد العلماء عوامل تُعزز تكوين الخلايا العصبية، مثل التمارين الرياضية، والبيئات المُخصبة، والعوامل الغذائية (مثل الفلافونويدات الموجودة في التوت الأزرق).

وبالتالي، يُؤكد الإجماع العلمي النهائي أن خلايا الدماغ - وخاصةً في الحُصين - يُمكن نموها طوال الحياة في ظل الظروف المُناسبة.

10. مستقبل نمو الخلايا وتطبيقاته.

يكمن مستقبل نمو الخلايا في تقاطع علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي وهندسة الأنسجة:

• غرسات دماغية مُهندسة بيولوجياً لاستعادة الذاكرة لدى مرضى الزهايمر.

• عضيات دماغية مُعدلة جينياً لأبحاث عصبية مُخصصة.

• طباعة الخلايا العصبية وزرعها لعلاج إصابات العمود الفقري والتنكس العصبي.

• شبكات عصبية مُدربة بالذكاء الاصطناعي مبنية من خلايا عصبية بيولوجية حقيقية (مثل DishBrain، 2022).

التوقعات: بحلول عام 2040، يمكن أن يُخفِّف تجديد الخلايا العصبية العبء العالمي للأمراض التنكسية العصبية (التي تُكلِّف حالياً أكثر من تريليون دولار أمريكي سنوياً) بنسبة تصل إلى 25%، وفقاً لتوقعات منظمة الصحة العالمية.

الخلاصة,

لقد تحوّلت مسألة قدرة البشر على تنمية خلايا دماغية جديدة من خرافة مُشكِّكة إلى حقيقة علمية مُوثَّقة. وبفضل التطورات في علم الأحياء الجزيئي، وأبحاث الخلايا الجذعية، وتقنيات التصوير، نُدرك الآن أن تكوين الخلايا العصبية لدى البالغين يحدث، لا سيما في الحُصين، ويُبشِّر بإمكانية هائلة لعلاج إصابات الدماغ والأمراض التنكسية. على الرغم من استمرار التحديات في تجديد جميع أنواع الخلايا العصبية، إلا أن هذا المجال يتجه بثبات نحو إصلاح الدماغ بدقة. ومع استمرار العلم في طمس الخطوط الفاصلة بين البيولوجيا والهندسة، قد تُصبح القدرة على تنمية خلايا الدماغ قريباً ليس مجرد إمكانية علاجية، بل أساساً لتعزيز الإدراك نفسه.

أكثر المقالات

toTop