العمل المفقود لآلان تورينج قد يكشف كيف حصلت النمور على خطوطها

أصبح عالم الرياضيات آلان تورينج اليوم مشهورًا عالميًا لأنه ساعد الحلفاء على تحقيق النصر على دول المحور من خلال فك تشفير كان يعتبر غير قابل للفك. وقد ألهمت هذه القصة فيلم The Imitation Game (لعبة التقليد) الذي أنتج عام 2014. ومع ذلك، ظلت أعمال تورينج في مجال التشفير طي الكتمان حتى سبعينيات القرن العشرين، لذلك لم تُعرف إنجازاته المذهلة إلا بعد وفاته.

خلال حياته، كان تورينج معروفاً بين بعض الخبراء. فقد طوّر النموذج الرياضي للحاسوب وشرح الكميات الرياضية التي يمكن أن يحسبها، والمهام التي تتجاوز حتى أكثر الخوارزميات تطوراً. كما اشتهر أيضًا باختبار طوّره، والذي سُمي فيما بعد باسمه، والذي يقيّم مدى ظهور الذكاء الاصطناعي ”البشري“. على سبيل المثال، إذا لم يتمكن الناس من معرفة ما إذا كانوا يتحدثون إلى شخص حقيقي أو ذكاء اصطناعي، فإن الآلة قد اجتازت اختبار تورينج.

قائمة مساهمات تورينج العلمية طويلة. لكن نادراً ما يتم ذكر مجال واحد من أبحاثه: عمله في علم الأحياء الرياضي الذي تناول تكوين الأنماط. فقد كان مهتمًا بمسألة كيفية تكوين الحيوانات لخطوطها وبقعها المثيرة للإعجاب، وكان مقتنعًا بأنه لا بد من وجود آلية تقوم من خلالها الأصباغ في خلايا الجلد بترتيب نفسها في هذه الأنماط. نستعرض في هذه المقالة هذا المجال المفقود من مجالات عمل تورينج.

الصورة بواسطة The way of Changpian , على Wikimedia

آلان تورينج عام 1951

كيف يحصل النمر على خطوطه؟

قد نستغرب عندما نسمع بوجود رابط بين العوامل الرياضية المجردة وخطوط النمر. وذلك لأننا نفترض أن بعض العمليات الكيميائية الحيوية المعقدة هي التي تؤدي إلى أنماط النمر المثيرة للإعجاب من النقاط والخطوط، وليس شيئًا يمكن تمثيله رياضيًا.

ولكن تورينج أراد أن يفهم هذه الظاهرة، ووجد بالفعل آلية بسيطة للغاية يمكنها تفسير الأنماط.

لفهم أفكار تورينج نحتاج أولاً إلى خلفية بيولوجية بسيطة. إن نمط جلد النمر يحدَّد قبل ولادته. ففي النمر الجنين، تنشأ الخلايا المنتجة للصبغة في النقطة التي سيتطور فيها العمود الفقري لاحقاً. ومن هناك، تهاجر هذه الخلايا عبر الجسم بأكمله. وعلى الرغم من عدم وجود أبحاث حول هذه الخلايا في زمن تورينج، إلا أنه أدرك أن هناك عملية تطورية تشكل أنماط الجلد، وأراد معرفة كيفية حدوث ذلك.

كان من المستحيل نمذجة جميع الجزيئات المتفاعلة في الجنين الحيواني. علاوة على ذلك، لم يكن تورينج خبيرًا في الكيمياء الحيوية. لذلك، وكما هو معتاد بالنسبة لعلماء الرياضيات، بدأ بنموذج بسيط للغاية. فقد درس كيف ينتشر جزيئان مختلفان منتجان للصبغة، أطلق عليهما عمومًا اسم مورفوجينات، من خلية إلى أخرى.

الصورة بواسطة tamron18270 , على pxhere

خطوط جلد النمر

قصة مورفوجينَين اثنين:

لنفترض أن أحد المورفوجينين مسؤول عن اللون الأسود والآخر مسؤول عن اللون البرتقالي. وكلما زاد عدد المورفوجينات السوداء أو البرتقالية، زاد إنتاج هذه الجزيئات بشكل عام. وبالإضافة إلى ذلك، تؤثر هاتان المادتان على بعضهما البعض: يمكن للمورفوجينات البرتقالية أن تثبط إنتاج المورفوجينات السوداء.

يوجد مثل هذا التفاعل في علم البيئة. على سبيل المثال، يمكن اعتبار المورفوجينات السوداء مثل الأرانب البرية التي تتكاثر بسرعة وبالتالي تجذب الثعالب (المورفوجينات البرتقالية). ولكن الثعالب تأكل الأرانب البرية وبالتالي تحد من تعدادها، فينقص عدد الثعالب بدوره، ونصل في نهاية المطاف إلى حالة مستقرة.

بترجمة هذا المثال إلى مورفوجينات، يمكن للمرء أن يتخيل كيف يمكن أن يعكس نمط يشبه النقاط المشابهة لفراء الفهد المرقّط أن أحد المورفوجينين قد حد من انتشار مورفوجين آخر.

لم يستخدم تورينج تصور الثعلب والأرنب عندما وصف كيف يمكن للمورفوجينات أن تتحرك عبر خلايا الجنين، لكنه أخذ في الاعتبار ظاهرة الانتشار. فإذا كانت خلية ما تؤوي العديد من المورفوجينات السوداء، على سبيل المثال، وكانت خلية مجاورة تأوي القليل منها، فإن الجزيئات تسعى جاهدة إلى التحرك بحيث تتوزع بالتساوي قدر الإمكان.

يمكن وصف كل هذه العمليات بالمعادلات التفاضلية. تحتوي هذه المعادلات على مشتق واحد أو أكثر ويمكن أن تشير إلى كيفية تغير عدد المورفوجينات في الخلية الواحدة. استخدم تورينج هذه المعادلات لدراسة كيفية انتشار مورفوجينين اثنين في الخلايا والتوزيع الذي يحدث في النهاية. وبذلك، تمكن من ضبط العديد من المتغيرات. لنضع ذلك في سياق تشبيهنا للحيوان: كم عدد الثعالب والأرانب البرية في البداية؟ ما مدى سرعة تكاثر الأرانب البرية وكم عدد الثعالب التي تجذبها؟ ما مدى سرعة انتشارها؟ كيف يتم ترتيب الخلايا التي تهاجر من خلالها الجزيئات؟ كل هذه العوامل تؤثر على النمط الذي يظهر في النهاية.

عندما بحث تورينج في هذه المسألة، لم يكن لديه حاسوب قوي تحت تصرفه، وكان عليه إجراء العديد من العمليات الحسابية يدويًا. قام بحل المعادلات التفاضلية، وسجل كيف توزع المورفوجينان في النهاية في الخلايا ولاحظ كيف ظهرت الأنماط. في بعض الحالات، كانت هناك خطوط، وفي حالات أخرى وجد نقاطًا أو أحيانًا بقعًا تشبه تلك الموجودة على الأبقار.

اكتشف تورينج أن نوع النمط يعتمد على ترتيب الخلايا. تميل الخطوط إلى التشكّل في البنى الصغيرة والممدودة، بينما تتشكل النقاط على الأسطح الكبيرة. النمر الكبير ليس حيواناً صغيراً، ولكن تخطيطه يشير إلى أن توزيع المورفوجينات يحدث في الوقت الذي يكون فيه جنينًا. ويمكن رؤية كلا التأثيرين في الفهود المرقطة: فجسمها مرقط، لكن ذيلها مخطط.

الصورة بواسطة Mistvan , على Wikimedia

الفهد المرقط وذيله المخطط

نظرية جميلة، ولكن ماذا يحدث في الممارسة العملية؟

لسوء الحظ، لم يلقَ هذا العمل الذي قام به تورينج اهتمامًا كبيرًا خلال حياته. بعد فترة وجيزة من نشر بحثه في عام 1952، طغى اكتشاف بنية الحلزون المزدوج للحمض النووي على كل شيء آخر. استغرق الأمر حوالي 20 عامًا حتى أعاد علماء الأحياء اكتشاف عمل تورينج، ما ألهم جيلًا جديدًا لاختبار ما إذا كانت آلية تورينج تحدث بالفعل في الطبيعة. لكن التقنيات المطلوبة لم تكن متاحة إلا منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

لإثبات فرضية تورينج، يجب تحديد المورفوجينات الموافقة في الحيوانات. وعلى الرغم من أن هذا ليس بالأمر السهل، إلا أن هناك حالات قليلة معروفة الآن. على سبيل المثال، حدد العلماء بروتينين في الفئران التي تنتج البنية المخططة لحنكها، ويبدو أن ترتيب بصيلات الشعر في الحيوانات يتأثر ببروتينين آخرين. تُظهر هذه الأمثلة أن أفكار تورينج لا تقتصر على أنماط الألوان بل تنطبق أيضًا على التراكيب الأخرى.

الخاتمة:

وماذا عن النمر وخطوطه؟ حتى الآن، تم اكتشاف المورفوجينات بشكل أوضح في الفئران، والتي يسهل دراستها في المختبر. ولكن نأمل أن يتم التوصل إلى استراتيجية علمية مستقبلية لإثبات آلية تورينج بما لا يدع مجالاً للشك في القطط الكبيرة أيضاً.

أكثر المقالات

toTop