button icon
صورة الخلفيّة
button icon
بطاقات دُعاء
button icon
رمضان مبارك
button icon
بطاقة الإجابة

كبسولة مرّاكش الزمنية - ساحة المسجد المهجور

عند تقاطع التاريخ والخيال، تقف مدينة مراكش كرمز نابض بالحياة للتراث المغربيّ الغنيّ. تُعرف هذه المدينة القديمة باسم "المدينة الحمراء" بسبب مبانيها المصنوعة من الطين المحروق، وهي تسحر الزوار بمدينتها القديمة المتعرجة وأسواقها الصاخبة وأجواء الغموض التي تخيّم على كل زاوية. ومن بين عجائبها العديدة، تبرز فنون سرد القصص في ساحة جامع الفنا كشهادة حية على الروح الثقافية للمدينة، والتي تزدهر في ظل مسجد الكتبية المهيب، والذي يُلقب غالبًا بـ "المسجد المهجور".

جامع الفنا - مسرح مراكش الحيّ:

صورة من pixabay

إحدى النظريات في أصل اسم جامع الفنا هي أن موقعه كان الموقع المقصود لـلمسجد الجامع الذي كان من المقرر بناؤه في عهد السلطان السعدي أحمد المنصور (1578-1603) ولكن لم يكتمل بناؤه قط، وتحول موقع البناء إلى خراب. والاسم الحالي قد يذكرنا بتاريخه كموقع بناء غير مكتمل. لاحقًا، نُظّف المكان من مواد البناء وأصبح ساحة بحكم الأمر الواقع. جامع الفنا ليس مجرد سوق؛ إنه مسرح للحياة حيث يمتزج القديم والجديد بسلاسة. في النهار، تعجّ هذه الساحة الواسعة بالنشاط. يروج التجار لبضائعهم، من السجّاد النابض بالحياة، والمجوهرات المعقدة، والتوابل العطرية، إلى زجاجات زيت الأرغان التي تلمع في ضوء الشمس. يؤدي البهلوانات عروضهم، ويحرّك سحرة الثعابين زواحفهم الخاملة على أمل جعلها تبدو أكثر خطورة، ما يخلق جوًا يشبه الكرنفال. الهواء كثيف برائحة الزعفران والجلد وعصير البرتقال الطازج. مع حلول الغسق، يخضع الميدان لتحول دراماتيكي: تومض الفوانيس بالحياة، وتلقي بوهج دافئ على صفوف أكشاك الطعام التي تقدم الأطعمة المغربية التقليدية. يتصاعد الدخان من الشوّايات المحملة بالكباب، بينما تجتذب الأصوات الإيقاعية للطبول والآلات الوترية التقليدية المارة الفضوليين. وفي خضم هذه السيمفونية الحسيّة، ينشأ شكل فني أكثر هدوءًا ولكنه جذاب بنفس القدر: رواية القصص.

الحكواتيّة - حراس التقليد الشفهي:

يعتبر رواة القصص، أو الحكواتيّة، قلب التراث الثقافي لجامع الفنا. لا يكتفي هؤلاء الخطباء الماهرون بسرد الحكايات؛ فالحكواتي يجسّد هذه الحكايات. من خلال إيماءاته المعبرة، وتغييرات نبرة صوته، ولحظات صمته المتعمد، يجذب الحكواتي المستمعين إلى عالم من الخيال. قد تبدأ القصص بهدوء، مثل النسيم، ثم تتصاعد إلى لحظات من التشويق والضحك. كل حكاية هي نسيج معقد، منسوج بعناصر من التأثيرات الثقافية المتنوعة في المغرب. فمن قبائل البربر (الأمازيغ) في جبال الأطلس إلى أصداء الأندلس في الأندلس، تعكس القصص بوتقة الانصهار التي كانت مراكش عليها منذ فترة طويلة. والمحتوى متنوع بقدر تنوع الجمهور: حكايات شعبية عن المحتالين الماكرين الذين يتفوقون على أعدائهم، أو قصص عن السلاطين النبلاء ومكائدهم في البلاط، أو أمثال مؤثرة تحمل دروسًا أخلاقية. إن العديد من هذه الحكايات غارقة في التقاليد العربية والأمازيغية، وتقدم لمحة عن وجهات النظر الروحية والفلسفية في المغرب. إن قدرة رواة القصص على تكييف سردهم تضمن أهميتهم؛ حيث يمكن للحكايات أن تتحول بمهارة لمعالجة القضايا المعاصرة، ما يثبت أن رواية القصص تتعلق بالحاضر بقدر ما تتعلق بالماضي.

مسجد الكتبية - شاهد صامت:

صورة من wikimedia

مسجد الكتبية، بأقواسه الأنيقة ومئذنته الشاهقة، هو أكثر من مجرد معلم بارز؛ هو رمز لمراكش. وعلى الرغم من لقب "المسجد المهجور" بسبب الحكايات التاريخية عن الهياكل غير المكتملة السابقة، فقد وقف المسجد الحالي كواحدة من الأعاجيب الروحية والمعمارية منذ القرن الثاني عشر. وتلقي مئذنته، وهي تحفة فنية من تصميم الموحدين، نظرة يقظة على الساحة، وتثبت الطاقة المحمومة لجامع الفنا بحضورها الهادئ. يضيف قرب المسجد طبقة من الروحانية إلى تقاليد رواية القصص. ويؤكد أذان المغرب على قدوم المساء، ويهدئ الحشود مؤقتًا. في تلك اللحظات، تبدو القصص معلقة في الهواء، وكأنها تنتظر الاعتراف الإلهي قبل استئناف رحلتها.

رحلة حسية عبر الزمن:

صورة من wikimedia

بالنسبة للسياح، يقدم جامع الفنا تجربة حسية لا مثيل لها. تخيل أنك تجلس متربّع الساقين على حصيرة منسوجة تحت مظلة من النجوم. من حولك، تشكّل همهمة الحشد خلفية إيقاعية بينما يبدأ الحكواتي في التحدث. صوته الغني والرنان، ينتقل عبر الساحة. يجلس الأطفال بعيون مفتوحة، وخيالهم يشتعل. ويهز كبار السن رؤوسهم بوعي، ويجدون أصداء مألوفة لحكايات طفولتهم. تنتشر رائحة لحم الضأن المشوي وحساء الحريرة المتبل في الهواء، وتختلط بحلاوة شاي النعنع الذي يُقدم في أكواب مزخرفة. في الأعلى، تُضاء مئذنة مسجد الكتبية، وهي تذكير صامت بالرابط الأبدي بين المقدس والدنيوي في مراكش.

الحفاظ على فن يتلاشى:

عانى المركز التاريخي لمراكش، وهو أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، من عواقب أكبر زلزال تم تسجيله على الإطلاق في المغرب، والذي ضرب المدينة في سبتمبر/ أيلول 2023، وأسفر عن مقتل أكثر من 2000 شخص. وانهارت العشرات من المباني في المدينة، وانهارت مئذنة في ساحة جامع الفنا الرمزية. لكن إعلان اليونسكو عن التراث العالمي لا يشمل المباني والشوارع فحسب، بل يمتدّ إلى شيء يتجاوز الطوب والإسمنت، يجمع قرونًا من اللغة والتاريخ، وهو التقليد الشفوي لرواة القصص، والذي أصبح أيضًا في خطر، حيث طغت عليه السياحة الجماعية.

على الرغم من سحره الدائم، يواجه فن سرد القصص تحديًا وجوديًّا آخر. ففي عصر الترفيه الرقمي والإشباع الفوري، قد يبدو الكشف البطيء والمتعمد عن قصة ما خارج نطاق العصر الحديث. فالأجيال الأصغر سناً، التي تنجذب إلى الشاشات بدلاً من التقاليد الشفهية، أقل ميلاً إلى التجمع حول رواة القصص في جامع الفنا.

في مراكش، لم يتبق سوى سبعة رواة قصص ما زالوا قادرين على تقديم القصص التقليدية في الأماكن العامة، وهم جميعًا يقتربون من الثمانين. بعد أن كانوا أكثر من ثلاثين راويًا قبل الوباء.

ومع ذلك، فإن الجهود جارية للحفاظ على هذا التراث. تنظم المنظمات الثقافية المحلية، بالتعاون مع اليونسكو، مهرجانات سرد القصص التي تجمع الحكواتيّة من جميع أنحاء المغرب وخارجه. تقدم المدارس والمراكز المجتمعية ورش عمل لتعليم فن سرد القصص الشفهي، ما يضمن بقاءه تقليدًا حيًا وليس مجرد بقايا. وفي السنوات الأخيرة، ظهرت المدارس في الجمعيات والمقاهي في المدينة لجيل جديد يحاول استعادة إرث السرد القصصي التقليدي. في هذه المدارس يتعلم الرواة السرد التقليدي، ويضيفون إليه، ويجدّدونه باستخدام التقنيات الجديدة، مع فكرة سرد القصص بطريقة أكثر تنظيماً، ولكن مع احترام جوهر المصادر الأصلية، وليس النظرية الأكاديمية.

تجربة خالدة:

زيارة مراكش تعني الدخول إلى عالم يتشابك فيه التاريخ والأسطورة. إن رواة القصص في جامع الفنا ليسوا مجرد مؤدّين؛ بل هم أمناء على تقليد شكل هوية المدينة لقرون. تذكّرنا حكاياتهم بقوة الكلمة في التواصل والتعليم والإلهام. عندما تغادر الساحة، يتردد صدى القصة في ذهنك، قصة ثعلب ماكر، أو سلطان شجاع، أو حب مستحيل. ستبقى معك، كتذكار أغلى من أي زينة. في مراكش، القصص حية، ومن خلالها تتنفس المدينة.

المزيد من المقالات