الصورة عبر unsplash
الصورة عبر unsplash

تاسيلي نجير... إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الاسم، فاطمئن، أنت لست وحدك. الحقيقة هي أنني لست متأكدًا من أنني كنت سأجد طريقي إلى هناك على الإطلاق لولا رسالة تلقيتها من زميل كاتب، عاد مؤخرًا من الجزائر، تهرّب من أسئلتي حول مدنها الشمالية ومواقعها التاريخية و ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكرر تلك الجملة مرارًا: «يجب أن تذهب إلى تاسيلي نجير» مما أثار لدي الكثير من الفضول عن سبب تعلقه بذلك المكان.

موقع منتزه تاسيلي نجير الجغرافي

يقع منتزه تاسيلي نجير الوطني في الركن الجنوبي الشرقي من الجزائر، ويغطي مساحة 72000 كيلومتر مربع من الصحراء الكبرى، مما يجعلها أكبر قليلاً من أيرلندا. عبر هذه المساحة الشاسعة، تبدو الصحراء وكأنها خليط كبير من قمم الحجر الرملي والجبال المجدولة والكثبان الرملية الهائلة من الرمال متعددة الألوان. تصف اليونسكو، التي أدرجت الحديقة كموقع للتراث العالمي في عام 1982، مناظرها الطبيعية التي تبدو كأنها من عالم آخر بأنها «غابات حجرية».

ADVERTISEMENT

التحليق فوق منتزه تاسيلي نجير

الصورة عبر unsplash
الصورة عبر unsplash

بحلول الوقت الذي حلقت فيه بالطائرة فوق الصحراء الجزائرية على متن الرحلة التي استغرقت ساعتين جنوبًا من الجزائر العاصمة، كان منتزه تاسيلي نجير قد بدا من الأعلى وكأنه يعد بشيء تحرري وسريالي: إنها الرغبة في امتلاك قطعة أرض عملاقة بهذا الحجم لأنفسنا.

صخرة القنفذ المثيرة في تاسيلي نجير

الصورة عبر safarway
الصورة عبر safarway

خلال إحدى الجولات بين الأعاجيب الجيولوجية، وفي نهاية وادٍ طويلٍ محاطٍ بالنتوءات الصخرية على الجانبين، تقف صخرة القنفذ بقبتها العلوية التي تشبه سلّمًا من الحجر المدرج؛ والتي تم نحت نصفها السفلي على مر الدهور بواسطة الرياح والأمطار. يتوزع وزن صخرة القنفذ على ثلاثة أعمدة رفيعة. يبدو هذا القنفذ وكأنه يحرك خطمه اللزج إلى الجانب، كما لو كان يشم الهواء. في أول الأمر تبدو فكرة أن تلك الصخرة منحوتة طبيعيًا دون تدخل بشري أمرًا سخيفًا، ولكن بعد يومين في منتزه تاسيلي نجير، بدا كل شيء سرياليًا، حيث أصبح هذا النوع من الفن الطبيعي روتينيًا.

ADVERTISEMENT

الوصول إلى منتزه تاسيلي نجير الوطني

الصورة عبر windows10spotlight
الصورة عبر windows10spotlight

هبطنا في جانت، في المنطقة الجنوبية الشرقية للجزائر بالقرب من حدود ليبيا بعد ظهر يوم ضبابي. كان ينتظرنا المرشد السياحي الخاص بنا عند دائري الأمتعة. كان رجلًا صفصافًا وبهيجًا، وكان يرتدي غطاء رأس أرجوانيٍّ مميز ومعروف لدى قبيلة الطوارق، الشكان الأصليين لصحراء الجزائر، وهو عضو في قبيلة الأمازيغ المهيمنة في جنوب الجزائر. قفزنا إلى سيارة دفع رباعي تابعة لصديق مرشدنا وانطلقنا شرقًا على طول طريق إسفلتي فارغ.

تاسيلي نجير... منتزه الغموض

كان منتزه تاسيلي نجير غامضًا حقًا ، فقد كان يبدو إلى حد ما كمؤامرة جغرافية، لأن وجهتنا كانت بعيدة بشكل غير عادي كأننا تلقينا صفعة في وسط الصحراء، وكنا أيضًا قريبين جدًّا من دولتي ليبيا والنيجر، وقال المرشد مشيرًا إلى هضبة تمريت، وهي جرف ضخم، محظور حاليًا، لأن تعذر الوصول إليه يعيق الدوريات العسكرية: «كانت هناك رحلات للإبل هناك». «الآن يأتي عدد قليل جدًا من السياح الغربيين إلى هنا، ولا أحد يذهب إلى الهضبة».

ADVERTISEMENT

وأكد لنا المرشد أن وجهتنا لم تكن أقل خصوصية، كنا نتجه جنوبًا إلى منطقة من هذه البرية المترامية الأطراف والتي على الرغم من قربها من الحدود الليبية، إلا أنها آمنة - وهو مكان يُعرف بالعامية باسم " تادرارت الحمراء" وهي منطقة جبلية تشبه كثيرًا تلك الأماكن التي ظهرت في الأفلام على أنها على سطح كوكب المريخ المعروف باسم الكوكب الأحمر. كان الليل قد بدأ فاضطررنا إلى التخييم والمبيت لنكمل رحلتنا في اليوم التالي.

غابات تاسيلي الحجرية

الصورة عبر nationalparks
الصورة عبر nationalparks

بحلول صباح اليوم الثاني، بعد التخييم في الليلة الأولى على أطراف منتزه تاسيلي نجير، كنا قد ألفنا المواقف التي أصبحت معتادة على مدار رحلتنا البرية: المرشد، والسائق ، والطباخ، وغطاء الرأس الأرجواني الملفوف بشكل ثابت حول الرؤوس والأعناق، وكان في مقدمة السيارة صندوقًا مليئًا بالطعام ومعدات التخييم لإعالتنا لمدة ستة أيام في الصحراء، حتى وصلنا إلى التضاريس المذهلة وطيف الأشكال الرأسية حيث توجد مرتفعات شاهقة تنبع من سهول الحصى، وبها سلسلة من الصخور البنية بلون الكاكاو، كما تغطي الرمال مساحات واسعة ثم تتدرج إلى مدرجات من الصخور الشاهقة المخططة. الكهوف هناك كثيرة لا يمكن إحصاؤها من كثرتها. إنها غابات تاسيلي الحجرية كما يطلقون عليها.

ADVERTISEMENT

تاسيلي نجير وفن الرسم على الصخور قبل التاريخ

الصورة عبر unesco
الصورة عبر unesco

على بعد أميال قليلة من نقطة التفتيش العسكرية المعروفة باسم «الباب»، والتي كانت بمثابة عتبة منطقة تادرارت الحمراء، توقفنا بجانب ما بدا، للوهلة الأولى، وكأنه لوح فارغ عند قاعدة جرف. فقط مع اقترابنا رأينا الصور على الصخور... قطيع من الأبقار ومجموعة من الصيادين الممشوقين الأجساد يركضون وراء حيوانات تشبه الخنزير والزرافة وحيوان آخر مستلقٍ له جلد مرقط. كانت هذه إحدى أقدم أعمال فن الرسم على الصخور في عصور ما قبل التاريخ في العالم.

أنواع الصخور في غابات تاسيلي الحجرية

كان الحجر الرملي المؤكسد المحمرّ من أكثر الصخور المنتشرة في الغابة الحجرية في تاسيلي، وهو نفس الصبغة المحمرة التي تلطخ العديد من الكثبان الرملية، ويتم سحقها وخلطها بعوامل الترابط مثل الدم وحليب البقر. بعض الأعمال الفنية الأكثر أناقة واستدامة محفورة بشق الأنفس على الصخور بألف ضربة من الحجر المستدير. فيما بينها، تصف الصور آلاف السنين من عصور ما قبل التاريخ وترسم التطورات الاجتماعية التي شكلها المناخ الجاف في المنطقة.

ADVERTISEMENT

النقوش الحجرية في تاسيلي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ

يُعتقد ان أقدم تلك النقوش الحجرية رُسمت منذ أكثر من 10,000 سنة، تصور النقوش الحيوانات الضخمة كالفيلة، والزرافات، والأسود التي تكشف ان صحراء اليوم كانت ذات يوم ارض عشبية خصبة. في وقت لاحق، استوطن الرعاة من العصر الحجري الحديث الأرض، مما أدى إلى تشريد الحياة البرية. لقد تركوا وراءهم رموز أنيقة من ماشية بيبالد قاموا بتربيتها على ما تبقى من السافانا. أصغر الرسومات، التي ازدراها سلام على أنها «ليست قديمة» (على الرغم من أن العديد منها أقدم من الآثار الرومانية الموجودة في أماكن أخرى في الجزائر) هي صور مجردة للإبل، وهي رموز للحياة الصارمة شبه البدوية التي سيرثها الطوارق. على عكس الحدس، يتدهور صقل الفن في هذه الفترة الأخيرة. مهما كانت الفرصة التي أتيحت للناس الأوائل للبقاء في مكانهم والانغماس في الدوافع الفنية، فقد تبخرت مع انتشار التصحر. وفي الصحراء، تعتبر الحركة التي لا تتوقف شرطا مسبقا للبقاء.

ADVERTISEMENT

منتزه تاسيلي ... أرض العجائب

بعد يوم أو نحو ذلك، كان لدي بالفعل شعور بأننا كنا في كوكب آخر من كثرة المناظر الرهيبة العظيمة في منتزه تاسيلي، لم نكن نرى الصخور في أفضل ضوء لها. طوال فترة الظهيرة الثانية في الصحراء، ملأت رياح السيروكو القادمة من الغرب بغبار برتقالي. كان لهذا تأثير في تقليل الرؤية، لكن الضباب نزف أيضًا صخور الملمس والعمق واللون والظل. في مولا ناجا، حيث خيمنا في المساء الثاني بجانب عمود من الصخور على شكل رأس جمل، يمكنك النظر مباشرة إلى الشمس، جرم سماوي فضي ضعيف، قبل نصف ساعة من اقترابه من الأفق.

في صباح اليوم التالي، استيقظت مبكرًأ، وبدت هذه النوافذ المهيبة مسطحة وطيفية. هذا الصباح، وقفوا في راحة تامة ضد سماء زرقاء عميقة.

قال لنا المرشد في رحلة العودة: «إنها معجزة!». بالنظر إلى رد فعل السياح الآخرين، لم يكن ما قاله المرشد بمثابة مبالغة.

انطلقنا في نزهة جنوبًا عبر حوض وادي. في بعض الأماكن، كانت الأرضية تحتوي على قشرة سميكة بيضاء اللون، مزينة بشقوق سداسية. أظهرت هذه القشرة مدى وصول المياه خلال أمطار الصيف عندما أصبح منتزه تاسيلي نجير نقطة انطلاق للطيور المهاجرة وماكن للتكاثر، وهناك نبات الحنظل يمتد ويفترش على الأراضي الرملية الناعمة، وهو عشب صحراوي به ثمرة كروية تشبه القرع، تنتشر بجانب مصادر الماء عبر المجاري المائية الجافة وقمنا بسحق قرون البذور تحت الأقدام كما نصحنا المرشد، باعتبارها طعام للطيور والغزلان.

بصمات الطبيعة في تاسيلي نجير

في غضون ذلك، كانت الكثبان الرملية المنخفضة نسخة من نشاط الليلة السابقة. قامت بصمات مخالب ابن آوى بتبطين خط الزوال الذي لا يخطئ عبر الرمال. كان التتبع بأكمله يتقاطع مع المنخفضات الصغيرة لليربوع، وهو نوع من القوارض ذات آذان ضخمة وأرجل تشبه الكنغر، والتي غالبًا ما تجسسنا عليها وهي تداهم معسكرنا بحثًا عن الفتات.

كانت زيارتي لمنتزه تاسيلي نجير يوم العجائب حقًّا. رأيت رموزًا غامضة من عصور ما قبل التاريخ، وتآكل الحجر الرملي إلى كل شكل وحجم يمكن تصوره تقريبًا. الصخور مثل الفطر. تشكلت الصخور في ممرات مكافئة مثالية. الصخور التي تشبه ناطحات السحاب، أو المركبات الفضائية، أو القنافذ غير المعقولة التي يبلغ وزنها طنين. حقًّا أنصح بشدة بزيارة منتزه تاسيلي نجير لمن يريد أن يشعر أنه في كوكب آخر، فهذا هو المكان المثالي لذلك الشعور.

المزيد من المقالات