في ظلّ التحولات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم العربي، من ارتفاع معدلات التضخم، إلى التغيرات الجذرية في نمط الاستهلاك، يبدو أن قواعد التمويل الشخصي التي اعتادها الأفراد باتت غير كافية أو ربما غير صالحة بالكامل. فهل حان الوقت لإعادة التفكير في الأسس التي نرتكز عليها في إدارة أموالنا؟ وهل نحتاج فعلاً إلى وضع قواعد جديدة تتماشى مع واقعنا المعاصر وتحدياته؟ هذا المقال يحاول أن يقدم إجابة واقعية وشاملة على هذا السؤال.
يشير مفهوم التمويل الشخصي إلى إدارة الفرد لدخله، مصروفاته، مدخراته، استثماراته، وديونه، بما يحقق له الاستقرار المالي والأمان المستقبلي. وفي العالم العربي، لا يختلف هذا المفهوم كثيرًا عن بقية أنحاء العالم، لكن ما يميزه هو السياق الاقتصادي والاجتماعي الخاص بالمنطقة.
قراءة مقترحة
ففي معظم الدول العربية، يعتمد جزء كبير من السكان على دخل ثابت من الوظائف الحكومية أو شبه الحكومية، في حين يظل الاستثمار الفردي محدودًا، والثقافة المالية العامة متدنية نسبيًا. وهنا تبدأ التحديات.
من أبرز التحديات التي تواجه الأفراد اليوم في العالم العربي هو التضخم. فخلال السنوات الأخيرة، شهدت دول مثل مصر، لبنان، تونس، وسوريا، معدلات تضخم قياسية أضعفت بشكل كبير القوة الشرائية للمواطن.
تخيل أن راتبك في بداية 2020 كان يغطي احتياجاتك الأساسية، لكن في 2025 بالكاد يكفي نصف هذه الاحتياجات. هذا الواقع فرض ضرورة إعادة التفكير في كيف ندير أموالنا، وطرح أسئلة جديدة: هل من المجدي الاعتماد على راتب واحد فقط؟ هل الادخار بالعملة المحلية لا يزال آمنًا؟ وما هي الأدوات المالية التي تحمينا من التآكل المالي؟
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والعولمة الثقافية، تغيّر نمط الاستهلاك لدى الشباب العربي. لم يعد الإنفاق يقتصر على الضروريات فقط، بل اتجه نحو الكماليات والتجارب. أصبح السفر، والموضة، والاشتراكات الرقمية، أولوية لدى كثير من الأفراد على حساب الادخار والاستثمار.
هذا التحول له وجهان: إيجابي من حيث التمتع بجودة حياة أفضل وتجارب جديدة، وسلبي حين يؤدي إلى تراكم الديون، والانقياد وراء نمط استهلاك غير مستدام. وبالتالي، يجب أن تعكس قواعد التمويل الشخصي الجديدة هذا التغير، من خلال موازنة بين الاستمتاع بالحياة وبين الحفاظ على الأمان المالي.
يُعد غياب الثقافة المالية أحد أهم أسباب الضعف في إدارة الشؤون المالية لدى الأفراد في العالم العربي. فلا تزال موضوعات مثل الاستثمار، التخطيط للتقاعد، أو التأمين، بعيدة عن اهتمامات الكثيرين.
القواعد الجديدة للتمويل الشخصي يجب أن تبدأ من التعليم المالي المبكر، سواء في المدارس أو عبر منصات رقمية موجهة. كما ينبغي تعزيز دور البنوك والمؤسسات المالية في التوعية، لا في التسويق فقط. فالفرد الذي يعرف كيف يعمل المال، وكيف يحمي نفسه من المخاطر، سيكون أكثر قدرة على بناء مستقبل مالي متين.
إذا سلّمنا بأن الواقع تغيّر، فإليك بعض القواعد الجديدة المقترحة التي يمكن أن تشكّل إطارًا عمليًا للتمويل الشخصي في العالم العربي:
في ظل هشاشة الوظائف في بعض القطاعات، بات من الضروري تنويع مصادر الدخل: عمل حر، استثمار في الأسهم أو العقار، أو حتى مشروع صغير.
مع ارتفاع معدلات التضخم، لم يعد الادخار في حسابات بنكية تقليدية كافيًا. الاستثمار الذكي أصبح ضرورة وليس رفاهية.
تخصيص ميزانية شهرية للنفقات ضروري، ولكن دون تجاهل جزء بسيط لتجربة الحياة والسفر والترفيه، للحفاظ على التوازن النفسي.
اجعل الادخار بندًا ثابتًا قبل أي مصروف آخر. هذه القاعدة الذهبية ما زالت صالحة، ولكن بنسب مرنة تتماشى مع التزاماتك.
الاستثمار دون معرفة قد يدمّر مستقبلك المالي. خصص وقتًا للتعلم من مصادر موثوقة، وابدأ بخطوات صغيرة ومدروسة.
لا يمكن تحميل الفرد المسؤولية كاملة. فالبنوك، والمؤسسات الحكومية، وشركات التكنولوجيا المالية، جميعها مطالبة بتوفير أدوات تسهّل إدارة المال، من خلال:
ظهور تطبيقات الفنتك (FinTech) في العالم العربي غيّر قواعد اللعبة. فمنصة لإدارة النفقات، إلى أدوات استثمار رقمية، إلى تطبيقات لشراء الأسهم بالهاتف، أصبح بالإمكان لأي شخص أن يسيطر على وضعه المالي أكثر من أي وقت مضى.
لكن لا يزال هذا المجال بحاجة إلى تنظيم وتثقيف، لمنع الاستخدام العشوائي أو التسرّع الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
علمتنا الأزمات — من جائحة كورونا إلى الحروب الإقليمية — أن الاستعداد المالي أمر لا يمكن تأجيله. وظهرت هنا أهمية:
التمويل الشخصي في العالم العربي دخل مرحلة جديدة تتطلب منا وعيًا مختلفًا، أدوات مرنة، وثقافة مالية متقدمة. لم تعد القواعد التقليدية كافية، فالتضخم، وتغيّر نمط الحياة، والتحولات الاقتصادية، كلها عوامل تفرض علينا إعادة النظر في كيف نكسب المال، ونصرفه، ونستثمره.
ربما لم نعد بحاجة إلى دفتر صغير ندوّن فيه المصاريف، ولكننا بالتأكيد نحتاج إلى عقلية جديدة، توازن بين الحاضر والمستقبل، وبين الحاجات والرغبات، وبين المخاطر والفرص.
فهل نبدأ اليوم بوضع هذه القواعد لأنفسنا؟ أم ننتظر حتى يُرغمنا الواقع على التغيير؟