العلماء المسلمون وجائزة نوبل: منظور تاريخي
تعد جائزة نوبل، التي أنشأها ألفريد نوبل عام 1895، إحدى الجوائز المرموقة التي تُكرّم المساهمات البارزة في مجالات مختلفة مثل الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام والعلوم الاقتصادية. وفي حين أن الحائزين على هذه الجائزة الموقرة يأتون من خلفيات وثقافات متنوعة، كان تمثيل العلماء المسلمين بين الحاصلين على جائزة نوبل متواضعاً نسبياً. ومع ذلك، فإن هذا لا يقلل من المساهمات الكبيرة التي قدمها العلماء المسلمون في المعرفة الإنسانية والتقدم. يهدف هذا المقال إلى استكشاف السياق التاريخي لإنجازات العلماء المسلمين في مجالات العلم المختلفة وتمثيلهم في جائزة نوبل.
المساهمات التاريخية للعلماء المسلمين:
كان العصر الذهبي الإسلامي، الذي امتد تقريباً من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر، بمثابة فترة من التقدم العلمي والثقافي والفكري الهائل في العالم الإسلامي. حقق العلماء المسلمون اكتشافات ومساهمات رائدة في مختلف المجالات، بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك والطب والكيمياء والفلسفة.
أحد أبرز الشخصيات في هذا العصر كان ابن الهيثم (الهيثم)، العالم الذي أحدثت مساهماته في مجال البصريات ثورة في فهم الضوء والرؤية. وقد أرسى عمله، وخاصة كتابه المهم "كتاب المناظر"، الأساس للبصريات الحديثة وأثّر على العلماء الأوروبيين اللاحقين مثل كيبلر وديكارت.
ومن الشخصيات البارزة الأخرى أبو القاسم الزهراوي (البوكاسيس)، الذي يشار إليه غالباً باسم "أبو الجراحة الحديثة". وتضمنت موسوعته الطبية الشاملة "التصريف" رؤى وتقنيات رائدة في الجراحة والتوليد والصيدلة، وظلّت مؤثرة لعدة قرون في كل من العالم الإسلامي وأوروبا.
كما قدم العلماء المسلمون مساهمات كبيرة في الرياضيات. وقد قدم الخوارزمي، المعروف بأبحاثه في الجبر والخوارزمية، مفهوم الخوارزمية، الذي أدى فيما بعد إلى تطور علوم الكمبيوتر الحديثة. وضع كتابه "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة" (الكتاب المختصر في الحساب بالإكمال والموازنة) الأساس للجبر، وقدم نظام الأرقام الموضعية العشرية إلى العالم الغربي.
علاوة على ذلك، حقق علماء الفلك المسلمون مثل ابن يونس وناصر الدين الطوسي تطورات ملحوظة في علم الفلك الرصدي، وعلم المثلثات، ونظرية الكواكب، مما ساهم في تحسين الأدوات الفلكية وتطوير نماذج فلكية دقيقة.
وتجدر ملاحظة أن هذه الفترة لازدهار العلوم في العالم الإسلامي قد سبقت نشوء جائزة نوبل بقرون، ولم يكن، بالتالي، ممكناً لقدماء رجال العلم المسلمين الاستفادة منها، لكنهم، بالمقابل، تلقوا عطاءات الحكام والملوك المعاصرين وتكريمهم.
العلماء المسلمون في عصر جائزة نوبل:
على الرغم من التراث الغني للإنجازات العلمية خلال العصر الذهبي الإسلامي، إلا أن تمثيل المسلمين المعاصرين بين الحائزين على جائزة نوبل كان محدوداً نسبياً. ومع ذلك، فقد تم الاعتراف بالعديد من العلماء المسلمين لمساهماتهم البارزة في مجالات تخصصهم ومنحهم جائزة نوبل.
أحد الأمثلة البارزة هو أحمد زويل، الكيميائي المصري الأمريكي الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 لعمله الرائد في اختراع كاميرا لتحليل الطيف تعمل بسرعة الفيمتوثانية (10-12 ثانية)، والذي سمح بمراقبة التفاعلات الكيميائية على فترات زمنية قصيرة للغاية. ساهمت أبحاث زويل الرائدة في فهمنا للعمليات الكيميائية الأساسية وفتحت آفاقاً جديدة لدراسة الديناميكيات الجزيئية. وهكذا، أصبح زويل أول عالم مصري وعربي يفوز بجائزة نوبل في الكيمياء، ودخل العالم بأسره في تطور جديد لم تنتظره البشرية، وأصبح ممكناً مراقبة حركة الذرات في الجزيئات خلال التفاعلات الكيميائية باستعمال أشعة الليزر السريعة. وقد فسّرت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم قرارها في تكريم د. زويل بالاعتماد على القفزة الهائلة في علوم الكيمياء نتيجة أبحاثه الرائدة في مجال دراسة التفاعلات الكيميائية باستعمال أشعة الليزر، ونشوء ما يسمي كيمياء الفيمتوثانية، واستعمال آلات التصوير الفائقة السرعة في مراقبة التفاعلات الكيميائية بسرعة الفيمتوثانية. وقد اعتبرت الأكاديمية السويدية في حيثيات قرارها في تكريم أحمد زويل أن هذا الاكتشاف يُعدّ ثورة في علم الكيمياء وفي جميع العلوم الأخرى المرتبطة به، ويسمح بفهم التفاعلات والتنبؤ بها.
وتكريماً لهذا العالم، أنشأت الحكومة المصرية مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا لتطوير العلم والتعليم في مصر، وهي مؤسسة ذات استقلالية تامة تستفيد من تبرعات الهيئات والأشخاص. وقد جاء بناء المشروع بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء المصري في مدينة 6 أكتوبر على مساحة 270 فدان.
بتاريخ 2 آب 2016 ، أعلن التلفزيون المصري وفاة العالم أحمد زويل في الولايات المتحدة عن عمر ناهز السبعين عاماً بعد صراع طويل مع ورم سرطاني في النخاع الشوكي. وأقيمت له جنازة عسكرية رسمية في 7 آب حضرها رئيس الجمهورية وقيادات الدولة.
ومن الحائزين على جائزة نوبل أيضاً يُشار إلى محمد عبد السلام، وهو فيزيائي نظري باكستاني شارك في جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 لمساهماته في نظرية القوى الكهربائية الضعيفة، وقد أظهرت هذه النظرية وجود تآثرات معينة بين الجسميات الأولية. فمثلا، ما يسمى بالقوى الضعيفة التي تدفع النيوترون إلى أن ينحل إلى بروتون وإلكترون، يمكن اعتبارها كجزء من القوة الكهرومغناطيسية المعروفة والتي تعمل بين كل الجسميات المشحونة. وقد فتحت النظرية بذلك الطريق إلى ثورة عظمى في فيزياء الكَم، كما أرست الأساس النظري للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. لعب عمل سلام دوراً حاسماً في توحيد القوى الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة، وتعزيز فهم القوى الأساسية التي تحكم الكون.
ساهم عبد السلام في إنشاء المركز الدولي للفيزياء النظرية في ترييستا بإيطاليا في عام 1964، وذلك انعكاساً لفكره ومبدئه في تقديم المعونة والدعم للعلماء الشباب في الدول النامية، وإقامة التعاون العلمي مع أقرانهم في الدول المتقدمة. كان هدف المركز الأول هو إيجاد مكان عمل للعلميين الشبان من العالم الثالث؛ لاستكمال أبحاثهم، وقد شغل منصب مدير هذا المركز حتى عام1994 . فيما يلي اقتباساً مهماً موجهاً إلى المسلمين ولا سيما العرب في إحدى محاضرات الدكتور محمد عبد السلام التي أُلقيت في الكويت عام 1981: " العلم ضروري لما يزودنا به من فهم بما وراء هذا العالم الذي نعيش فيه وإدراك المقاصد الإلهية. إنه ضروري لما يمكن أن تقدمه لنا مكتشفاته من منافع مادية. وأخيراً، ولأنه كونيٌّ، فهو وسيلة للتعاون بين كل بني البشر، وبالذات بين العرب والأمم الإسلامية. إننا مدينون للعلم العالمي. ينبغي أن نسدد ديننا بكل احترام للذات. ومع ذلك فإن المشروع العلمي لا يمكن أن يزدهر من دون مساهمتكم الشخصية كما كان الحال في القرون الماضية للإسلام. إن المعدل العالمي بنسبة من واحد إلى اثنين بالمائة من الدخل القومي الإجمالي يعني إنفاق أربعة بلايين دولار سنوياً من العرب، ومثلها من الدول الإسلامية على البحث العلمي والتطور، ويُنفق عُشر هذا المبلغ على العلوم البحتة. إننا بحاجة إلى قاعدة علمية في بلادنا، يديرها علماء، ومراكز علمية دولية بالجامعات أو خارج الجامعات تنال الدعم السخي والضمان والاستمرارية للرجال والأفكار. لا تَدَعوا أحداً يسجل علينا في المستقبل أن العلماء في القرن الخامس عشر الهجري كانوا هناك، ولكن العجز كان وجود أمراء يسهمون في سبيل العلم بسخاء".
أما عزيز سانجار، بالتركية (Aziz sancar)، فهو عالم تركي- أمريكي في مجال الكيمياء الحيويّة والبيولوجيا الجزيئيّة، ولد في صور القريبة من ماردين- تركيا سنة 1946. حاز عزيز سانجار على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2015 بشكل مشترك مع كل من بول مودريتش وتوماس ليندال لدراستهم حول فهم إصلاح الحمض النووي. قدّم سنجار إسهامات في مجال دراسة انزيمات فوتولياس (photolyase) وفي ترميم استئصال النيوكليوتيد في البكتيريا، وهذا ما جعله يغيّر توجهات عمله. في الوقت الحالي، يعمل سانجار كأستاذٍ في منحة سارة غراهام كينان في الفيزياء الحيويّة والكيمياء الحيويّة في مدرسة الطبّ في جامعة كارولينا الشماليّة، كما هو عضوٌ في مركز السرطان الشامل التابع لجامعة نورث كارولينا. شارك سانجار بتأسيس مؤسسة Aziz & Gwen Sancar، وهي مؤسسة لا تهدف إلى الربح، وإنما إلى تعزيز الثقافة ودعم الطلّاب الأتراك.
فيما يخص العالم منجي باوندي، بالعربى منجي الباوندي، فهو من مواليد 15 آذار 1961، وهو كيميائي أمريكي- تونسي- فرنسي يشغل حالياً أستاذ ليستر وولف في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. يُعرف باوندي بتقدمه في الاصطناع الكيميائي للنقاط الكمومية عالية الجودة. وفي عام 2023 حصل على جائزة نوبل في الكيمياء. ولد منجي باوندي في باريس، فرنسا، وهو ابن عالم الرياضيات التونسي محمد صلاح باوندي. هاجر باوندي وعائلته عندما كان طفلاً إلى الولايات المتحدة بعد أن عاش في فرنسا وتونس خلال فترات. وعاشت عائلته في ويست لافاييت في ولاية إنديانا، إذ كان والده صلاح يعمل في قسم الرياضيات في جامعة بوردو. أنهى باوندي دراسته من مدرسة ويست لافاييت الإعدادية الثانوية عام 1978. حصل باوندي على درجة الإجازة في الفنون في عام 1982 وعلى درجة الماجستير في الفنون في عام 1983 من جامعة هارفارد، وعلى درجة الدكتوراه في الكيمياء عام 1988 من جامعة شيكاغو.
عمل باوندي مع فريد (Freed) على فيزياء البوليمر النظرية، ومع أوكا (Oka)، عمل باوندي على تجارب على النطاقات الساخنة من H3+. لعبت هذه التجارب دوراً في فك رموز طيف انبعاث كوكب المشتري الذي تم رصده في عام 1989. وخلال دراساته العليا، نصح أوكا باوندي بالالتحاق ببرنامج صيفي في مختبرات شركة بيل، حيث قام لويس إي. بروس بإدخال باوندي إلى الأبحاث المرتبطة بالنقاط الكمومية. وبعد التخرج، ذهب باوندي للعمل مع بروس في مختبرات بيل كباحث ما بعد الدكتوراه. انضم باويندي إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في عام 1990 وأصبح أستاذاً في عام 1996.
كانت أبحاث باوندي من أكثر أبحاث الكيميائيين التي يُستشهد بها في العقد الأول من الألفية الثالثة. وهو شخصية رائدة في مجال البحث والتطوير في مجال النقاط الكمومية، وهي حُسيمات صغيرة شبه ناقلة، يمنحها حجمها النانوي خصائص ضوئية وإلكترونية فريدة.
كان التحدي الرئيسي في أبحاث النقاط الكمومية هو إيجاد طرق لاصطناع نقاط كمومية عالية الجودة ومستقرة ومنتظمة. تم الاعتراف بباوندي لعمله في تطوير طرائق لتحضير النقاط الكمومية. في عام 1993، قدم باوندي وطلاب الدكتوراه ديفيد ج. نوريس وكريستوفر ب. موراي تقريراً عن طريقة التوليف بالحقن الساخن لإنتاج نقاط كمومية قابلة للتكرار ذات حجم محدد جيداً وبجودة ضوئية عالية. وثد مكًن هذا التقدم في طرائق الإنتاج الكيميائي من "ضبط" النقاط الكمومية وفقاً لحجمها، وبالتالي تحقيق خصائص يمكن التنبؤ بها. لقد أعطى العلماء سيطرة أكبر على المادة، وجعل من الممكن تحقيق نتائج دقيقة وقابلة للتكرار.
فتحت هذه الطريقة الباب أمام تطوير تطبيقات تكنولوجية واسعة للنقاط الكمومية في مجموعة كبيرة من المجالات. وهكذا، تُستخدم النقاط الكمومية الآن في الثنائيات المُصدرة للضوء (LEDs)، والخلايا الكهروضوئية الشمسية، وأجهزة الكشف الضوئي، والموصلات الضوئية، وأشعة الليزر، والتصوير الطبي الحيوي، والاستشعار الحيوي وغيرها.
حصل باوندي على العديد من الجوائز والتكريمات في أمريكا والعالم تكلّلت عام 2023 في حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء بالاشتراك مع لويس إي بروس وأليكسي إكيموف " لاكتشاف وتحصير النقاط الكمومية".
بالإضافة إلى الفائزين الأفراد، تم أيضاً تكريم بعض المنظمات والمؤسسات من الدول ذات الأغلبية المسلمة بجائزة نوبل للسلام لجهودها في تعزيز السلام وحل النزاعات. على سبيل المثال، حصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة محمد البرادعي، الدبلوماسي المصري، على جائزة نوبل للسلام في عام 2005 لجهودها في منع الانتشار النووي وتعزيز الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
التحديات والفرص: في حين قدم العلماء المسلمون مساهمات كبيرة في المعرفة الإنسانية وتم الاعتراف بهم بمنحهم جوائز نوبل، إلا أن هناك تحديات تعيق المزيد من التمثيل والاعتراف. ويعود التفاوت في التحصيل العلمي إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية، وعدم كفاية البنية التحتية البحثية، والاستثمار المحدود في التعليم والبحث العلمي في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
ويتطلب التصدي لهذه التحديات جهوداً متضافرة من جانب الحكومات والمؤسسات التعليمية والمجتمع الدولي لتعزيز الثقافة العلمية، والاستثمار في البحث والتطوير، وخلق بيئة تمكينية للإبداع العلمي والتعاون. يمكن لمبادرات مثل المنح الدراسية والمنح البحثية وبرامج التبادل العلمي أن تساعد في رعاية الجيل القادم من العلماء المسلمين وتعزيز ثقافة التميز العلمي.
علاوة على ذلك، يُعدّ تعزيز التنوع والشمول في المجتمع العلمي أمراً ضرورياً لضمان الاعتراف بالمواهب من جميع الخلفيات والاحتفاء بها. إن الاعتراف بمساهمات العلماء المسلمين ودعمها لا يكرم تراثهم فحسب، بل يثري المؤسسة العلمية العالمية أيضاً من خلال الاستفادة من وجهات النظر والخبرات المتنوعة.
لقد قدم العلماء المسلمون مساهمات كبيرة في المعرفة الإنسانية وتم الاعتراف بهم بمنحهم جوائز نوبل لأبحاثهم واكتشافاتهم الرائدة. في حين أن تمثيل الحائزين على جائزة نوبل من المسلمين متواضع نسبياً مقارنة بإنجازاتهم التاريخية، فإن مساهماتهم تستمر في تعزيز التقدم العلمي.
ويتطلب التصدي للتحديات التي تعيق زيادة تمثيل العلماء المسلمين العمل الجماعي والاستثمار في التعليم والبحث والبنية التحتية العلمية. ومن خلال تعزيز ثقافة التميز العلمي والشمولية، يمكن تسخير الإمكانات الكامنة للعلماء المسلمين وضمان الاعتراف بمساهماتهم والاحتفاء بها على النحو الواجب على المسرح العالمي. ومن خلال القيام بذلك، فلا يقتصر الأمر على نكرم تراثهم فحسب، بل يعيد أيضاً التأكيد على القيم العالمية المتمثلة في الاكتشاف والابتكار التي تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية.