قرطاج.. همسات تونسية من الماضي
في القرن التاسع قبل الميلاد، وعلى متن سفينةٍ مُحمّلةٍ بالكنوز، هربت أميرة فينيقية من لبنان إلى تونس لتؤسّس مدينةً فوق ربوةٍ تونسيةٍ ارتفاعها 57 مترًا عن سطح البحر، على بُعد 15 كم من العاصمة الحالية لتونس، وعلى امتداد 3 كم على ساحل البحر الأبيض، إنها مدينة "قرطاج" في مهدها، والتي ستكون فيما بعد نواة حضارةٍ مؤثرةٍ في تاريخ دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ولم تكن تعلم تلك الأميرة الفينيقية ما يُخبّى المستقبل لتلك المدينة من أحداثٍ عظيمةٍ وبصمةٍ تاريخيةٍ سيتحاكى بها المؤرّخون على مرّ الزمان.
أصل التسمية
في عام 814 ق.م، تم تأسيس مدينة قرطاج على يد الأميرة "علّيسة" أو "ديدون"، و أُطلِق عليها اسم "قَرط حَدَشت" وتعني بالفينيقية "المدينة الجديدة"، وكان أهلها يعبدون "ملقرت" الذي يعني "ملك المدينة"، فتحوّل النطق إلى "قرطاج" بسبب النطق اللاتيني للاسم الفينيقي "قَرط حَدَشت"، واشتهرت بذلك الاسم منذ ذلك الحين.
الأميرة "عِلّيسة" مؤسِّسة قرطاج
في تونس يسمّونها "علّيسة" ويبجّلونها ويعظّمونها كبطلةٍ تاريخيةٍ، وفي لبنان وسوريا يحبونها ويرونها رمزًا للقوة والذكاء والجمال، واسمها عندهم "أليسا" أو "أليسار"، وفي المغرب هي "ديديون" أو "ديدون" رمز المرأة التي لا تُقهر، أما الغرب فيصورونها عاشقةً صادقةً أعطت كل شيئٍ للحب ولم تأخذ منه غير الموت، إنها الأميرة الفينيقية "علّيسة" ابنه الملك "مَتِّن" ملك "صُور" وزوجة الكائن الأسطوري شديد الثراء "زيركال بعل" كاهن "صور" الأعظم. نقلت "علّيسة" حضارةً على ظهر سفينة من لبنان إلى تونس وأسّست مدينة "قرطاج" ذات المجد التليد التي نافست "روما" في أوج قوتها، ويرجع سبب خروجها من مدينة "صور" بلبنان إلى مطاردة أخيها لها بعد موت أبيها الملك "مَتّن" حيث تولّى الحكم من بعده وطمع في ثروة زوج أخته بعد موته، واشتهر باسم الملك "بقماليون" أو "بجماليون". احتالت "علّيسة" المعروفة بذكائها لتنجو بنفسها ومالها، فأخبرت "بقماليون" أنها ذاهبة في رحلة لتُحضر كنوزًا فظنّ أنها ذاهبة لإحضار كنوز زوجها وأمدّها بالرجال والسفن، فاتفقت "عليسة" سرًّا مع المخلصين لها ونقلت الكنوز سرًّا إلى سفينتها، ثم نقلت أمام زوجها ورجاله أكياسًا مليئةً بالرمال ووضعتها تحت حراستهم على ظهر السفينة، وفي عرض البحر قامت برمي أكياس الرمال بالبحر تظاهرًا منها بأنها ترمي كنوز زوجها في البحر إكرامًا له، فقفز جنود الملك "بقماليون" في البحر خلف الأكياس وبقي معها المخلصون لها فقط. أبحرت الأميرة "عِلّيسة" مع أصحابها وأتباعها المخلصين في رحلةٍ طويلةٍ للبحث عن مكانٍ يصلح لتأسيس مدينةٍ جديدةٍ، حتى وصلت إلى أرض ملك المكسويين الذي وافق أن يعطيها قطعةً من الأرض بحجم جلد ثور، واندهش الحاضرون من موافقة "علّيسة" على تلك المساحة الصغبرة جدا ، لكن الأميرة الذكية قصّت جلد الثور وحوّلته إلى أشرطةٍ دقيقةٍ طويلةٍ وصلتها ببعضها وصنعت منها حبلًا طويلًا، وأحاطت به الهضبة التي تُعرف اليوم باسم "بيرصا" التي تعني "جلد ثور"، وأسّست "قرطاج" كنواةٍ لمستعمرةٍ فينيقيةٍ جديدةٍ ستبسط نفوذها في غرب البحر المتوسط وستخوض حروبًا عظيمةً ضد "روما".
قرطاج الوليدة
كانت هضبة "بيرصا" نقطة البداية لبناء مدينة "قرطاج" العظيمة، وقد جعلتها الأميرة "علّيسة" نموذجًا لمدينة "صور" ومرتبطةً بها روحيًّا وإداريًّا، لتنمو هذه المدينة بسرعةٍ وتتوسّع لتضمّ الأراضي حول غرب البحر المتوسط، ممّا أدّى إلى تأسيس دولة قرطاج التي تُسمّى بـ"الدولة البونية" وتحدّت الامبراطورية الرومانية حينما أرادت تأسيس حضارةٍ متطورةٍ تصل شرق البحر المتوسط بغربه. تأثر الملك "جابون" ملك المكسويين بإنجازات وجمال وذكاء "علّيسة" وطلب الزواج منها، فرفضت إخلاصًا لزوجها الراحل، لكنه هدّدها بحرق "قرطاج" فوافقت بعد أن أخذت منه وعدًا ملكيًّا بالحفاظ على المدينة، وفي ليلة الزفاف رمت بنفسها في المحرقة وماتت أمام عينيه، فاشتهر ذكرها في العالم وخصوصًا العالم الغربي الذي أصبحت "ديدون" أو "عليسة" فيه رمزًا للحب والإخلاص والتضحية وأصبحت "عليسة" من أشجع النساء في التاريخ مع "كيلوباترا" و "وزنوبيا" و"سميراميس".
العصر الذهبي لدولة "قرطاج"
توسّعت دولة قرطاج في الفترة ما بين القرن السابع قبل الميلاد وحتى القرن الثالث قبل الميلاد وأسّست مستعمرات جديدة على طول الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط سواء على الساحل الإفريقي أو الإسباني، كما بسطت نفوذها على بعض جزر البحر الأبيض المتوسّط كصقلّية وكورسيكا وغيرهما، مما جعلها تتحول إلى امبراطورية لها من الهيبة والقوة ما أشعَر الرومان بالتهديد. كان القرطاجيون مثلهم مثل الفينيقيين يتميزون بالمهارة والخبرة في التجارة البحرية وهم أول من زرعوا الزيتون في تونس، كما أنهم علّموا البربر الحروف فاستخدموا الأبجدية الفينيقية في كتابة لغتهم.
أمريكا في خرائط القرطاجيين
يحمل التاريخ القرطاجي من المفاجآت ما قد يصعب تصديقه، فعلى سبيل المثال، قام العالم الأثري الأمريكي "مارك ماكمينامين" في عام 1996م باكتشاف بعض العملات المعدنية القرطاجية التي ترجع إلى عام 350 ق.م، والتي رُسم عليها خريطة للعالم بها رسم للعالم الجديد (الأمريكتين)، مما سبّب ضجّةً في الوسط العلمي واستنكر الكثير من الأوروبيين هذا الاكتشاف وقاموا بمحاولة تفسير تلك الرسوم على أنها حروف فينيقية قديمة. لم يكن "مارك ماكمينامين" هو أول من قال بهذا القول، فقد سبقه المؤرخ الإغريقي "ديودوريس" عام 100 ق.م بقوله أن القرطاجيين عرفوا جزيرةً هائلةً بعيدةً جدًّا بها العديد من الجبال والأنهار العريضة، وكانوا يُخفون سرّ هذه الجزيرة الهائلة لأنها كانت مصدر لثرواتهم، ويُقال بأن القرطاجيين قد اكتشفوا "أمريكا" بالصدفة عن طريقة رحلة تجارية كانت تبحر أسفل الساحل الإفريقي الأطلسي وانحرفت عن مسارها بسبب عاصفة شديدة أدّت إلى وصولها إلى الأمريكتين.
حروب قرطاج مع روما (الحروب البونية أو البونيقية)
بعد بزوغ نجم الامبراطورية القرطاجية في غرب البحر المتوسط، تطلّعت قرطاج إلى التوسّع شرقًا وربط شرق البحر الأبيض بغربه، فحدثت اصطداماتٌ كبيرةٌ بين حضارتي قرطاج والحضارة الرومانية، وتمثّلت تلك الصراعات في ثلاث حروبٍ كبيرةٍ سُمّيت باسم "الحروب البونية" أو "البونيقية"، واستمرّت تلك الحروب ما يقرب من 43 عامًا، وكانت الحرب بريةً وبحريّةً أيضًا.
الحرب البونية الأولى
بدأت الحرب في عام 264 ق.م حينما استحوذ الرومان على جزءٍ من جزيرة "صقلية" وقاموا بحصار "أكراغاس" التي كانت قاعدةً رئيسيةً للقرطاجيين، مما استدعى القرطاجيين إلى إرسال جيشٍ ضخمٍ لتحرير الجزيرة عام 262 ق.م لكنه مُني بهزيمةٍ كبيرةٍ في معركة سُمّيت باسم معركة "أكراغاس". قام الرومان بعد ذلك بإنشاء أسطولٍ بحريٍّ قويٍّ للتغلّب على السيطرة البحريّة للأسطول القرطاجي واستطاعوا إحراز انتصارٍ كبيرٍ على القرطاجيين في أكبر معركةٍ بحريّةٍ في التاريخ من حيث عدد المشاركين بها، وسُمّيت باسم معركة "رأس إكنوموس". في عام 255 ق.م قام القرطاجيون بطلب عقد سلامٍ مع الرومان لكن الشروط التي اشترطها الرومان كانت قاسيةً جدًّا فاضطر القرطاجيون إلى استكمال الحرب وتحقيق انتصاراتٍ، فأرسل الرومان أسطولًا بحريًّا لإجلاء الناجين، وحاول القرطاجيون اعتراض الأسطول الروماني لكنهم فشلوا في ذلك، وبالرغم من ذلك فقد تمّ تدمير هذا الأسطول وخسر الرومان معظم سفنهم بسبب قيام عاصفةٍ شديدةٍ أدّت إلى خسارة الرومان لأكثر من 100 ألف جندي.
استطاع القرطاجيون في عام 255 ق.م استرجاع "أكراغاس" وقاموا بهدمها وتدميرها لأنهم كانوا يرون أنهم لن يستطيعوا الدفاع عنها، وفي نفس الوقت كان الرومان يعملون بكل قوتهم لإعادة بناء أسطولهم البحري المدمَّر فنجحوا في إضافة 220 سفينة جديدة ونجحوا في الاستيلاء على "بانورموس" ( باليرمو حاليًّا)، لكن سوء الحظ كان حليف الرومان حيث خسروا 150 سفينة بسبب عاصفةٍ أخرى، لكنّ التوسّع الروماني استمر في شبه الجزيرة الإيطالية وصقلية وتبقّى فقط حصنان قرطاجيان في صقلية، وحاول الرومان تدمير الأسطول البحري القرطاجي فيهما لكنهم هُزموا في معركة "دريباناي"، لم يستسلم الرومان وأعادوا بناء أسطولهم عام 243 ق.م ونجحوا في الحصار البحري للحصنين القرطاجيين مما اضطر القرطاجيين إلى طلب معاهدة سلامٍ تنازلت على إثرها قرطاج عن "صقلية" لصالح الرومان، ممّا أدّى إلى حدوث تمرّدٍ كبيرٍ في الامبراطورية القرطاجية لكن ذلك التمرّد تمّ إخماده بنجاحٍ، وظلّت المنافسة بين الرومان والقرطاجيين قائمةً ممّا أدّت إلى قيام الحرب البونية الثانية.
الحرب البونية الثانية
في عام 218 ق.م ظهر قائدٌ قرطاجيٌّ من أشهر وأهمّ القادة العسكريين في التاريخ، وهو "حنبعل" الذي قاد القرطاجيين في هجومٍ على البرّ الرئيسيّ لإيطاليا وتحقيق عدّة انتصاراتٍ متتاليةٍ لكنّ دخول الرومان إلى "قرطاج" اضطر "حنبعل" إلى الرجوع عام 204 ق.م قبل استكمال احتلال روما، وانهزمت القوات القرطاجية مما اضطرّهم إلى طلب معاهدة سلام مع الرومان، وكانت تلك المعاهد هي النهاية الغير رسمية للامبراطورية القرطاجية حيث دفعت قرطاج تعويضاتٍ هائلةً استمرّت في دفعها لمدة 50 سنة وتقلّصت ممتلكات الامبراطورية القرطاجية كثيرًا ولم تمثّل تهديدًا كبيرًا مرة أخرى على الرومان.
الحرب البونية الثالثة
في عام 149 ق.م قام الرومان بابتداع سببٍ لإعلان الحرب على قرطاج للقضاء عليها نهائيًّا، فقاموا بتدميرها كليًّا وذبحوا معظم أهلها وأصبحت قرطاج جزءًا من مقاطعة إفريقيا الرومانية لتعلن بذلك نهاية حقبة مضيئة في تاريخ تلك الأرض كانت يومًا ما من أقوى الامبراطوريات التي قامت على سواحل البحر الأبيض المتوسط. نجد بعض البقايا لمدينة "قرطاج" على بُعد 16 كم من مدينة تونس.