بغداد في العصور الوسطى.. منارة العالم
لا أجد من الكلمات ما يوفي تلك المدينة حقها تاريخيًّا، فمدينة بغداد ذات الثمانية ملايين نسمة والتي تُعتبر أكبر المدن في الشرق الأوسط بعد القاهرة، لها من المجد التليد والتاريخ ما ليس لغيرها من المدن، سنرجع إلى العصور الوسطى حيث كان العالم غارقًا في ظلمات الجهل والتعصّب لنرى بغداد منارة العالم والحضارة في ذلك الزمان وننهل من تاريخها ما يثير الحنين إلى ذلك الماضي الذي كان ومازال يعلو بنوره فوق نعرات التعصّب ونداءات الجهل، دعونا نقصّ حكاية بغداد... منذ ألف عامٍ.
بغداد أعظم المدن ومدينة أحلام العصور الوسطى
لا أجد من الكلمات ما يوفي تلك المدينة حقها تاريخيًّا، فمدينة بغداد ذات الثمانية ملايين نسمة والتي تُعتبر أكبر المدن في الشرق الأوسط بعد القاهرة، لها من المجد التليد والتاريخ ما ليس لغيرها من المدن، سنرجع إلى العصور الوسطى حيث كان العالم غارقًا في ظلمات الجهل والتعصّب لنرى بغداد منارة العالم والحضارة في ذلك الزمان وننهل من تاريخها ما يثير الحنين إلى ذلك الماضي الذي كان ومازال يعلو بنوره فوق نعرات التعصّب ونداءات الجهل، دعونا نقصّ حكاية بغداد... منذ ألف عامٍ.
العودة ألف عامٍ إلى الماضي
في القرن الثامن الميلادي، وتحديدًا بين عامي 762م و 764م، كانت بداية "بغداد" التي نعرفها على يد الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" الذي شيّدها وجعل منها أكبر مدينة مأهولة بالسكان في العالم في عصره بما يزيد على مليون نسمة، كما جعلها منارةً للعلم والعلماء في شتّى ألوان العلوم والفنون، جعل لها أربعة أبوابٍ هم باب "خراسان" و "باب الشام" و "باب الكوفة" و "باب البصرة"، وأحاطها بسورٍ دائريٍّ بديعٍ ومميّزٍ ما زالت بقاياه قائمةً حتى الآن، وبلغت بغداد أوج قوتها وجمالها في عصر الخليفة "هارون الرشيد" خامس خلفاء بني العباس، فاستحقّت بحقٍّ لقب عاصمة العالم القديم. اشتهرت بغداد بعددٍ من الأسماء الأخرى مثل "المدينة المدوّرة" و "الزوراء" و "دار السلام".
أزهى عصور بغداد
عندما تولى الخليفة هارون الرشيد الخلافة عام 786م أصدر عفوًا شاملًا عن كل الهاربين والمستخفين باستثناء بعض الزنادقة، وقام ببناء "بيت الحكمة" الذي جمع فيه أعدادًا كبيرةً من الكتب والمراجع في شتى ألوان العلوم المختلفة، كما أنه أمر بترجمة أعظم كتاب علميٍّ في عصره إلى العربية، وهو كتاب "الأصول أو الأركان في الهندسة" لكاتبه إقليدس، كما شجّع العلماء والمبتكرين و أجزل لهم في العطاء فتطوّرت العلوم وخاصة الفيزياء والفلك والطب والتقنية، فكانت الساعة المائية التي أرسلها كهديةٍ إلى "شارلمان" ملك أوروبا في زمنه، والتي من تطوّرها ظن "شارلمان" وحاشيته أنها ممسوسةٌ من الجن وقال "سحرنا هارون"، فلم يتمكنوا من تفسير كيفية عملها حيث أنه يتساقط منها عددٌ من الكرات المعدنية كل ساعةٍ، وعدد الكرات المعدنية المتساقطة يشير إلى الساعة بدقّةٍ، كما كانت بارتفاع 4 أمتار، وهذا يدلّ على الفارق التقنيّ الكبير بين العرب والأوروبيين في عصر هارون الرشيد.
الصناعة و الفن في بغداد
كان هارون الرشيد يهتم بالعلماء والشعراء من القارات الثلاثة حيث تّوج عصره بعض الأعمال الفنية والترجمات العلمية والأدبية التي فاقت شهرتها الآفاق، ولعل من أشهرها على الإطلاق "ألف ليلة وليلة" و "كليلة ودمنة"، ناهيك عن ترجمة العديد من كتب الطب والفلك من اللاتينية والفارسية والهندية إلى العربية، بالإضافة إلى ذلك قام بنقل تقنية صناعة الورق من الصين إلى بغداد وأقام أول مصنع للورق الذي كان أسهل وأرخص بكثيرٍ من الرَّقِّ المصنوع من جلود الحيوانات، فاندمجت العديد من العلوم والثقافات تحت أسقف مدينة بغداد لتصبح المدينة الأكثر تطورًا وحضارةً في العالم، وكان من نتاج ذلك التطور إنشاء الأرقام العربية التي يُطلق عليها اليوم خطأً (الأرقام اللاتينية)، وبالطبع كان أكثر الاكتشافات أثرًا في عالم الرياضيات هو رقم "صفر" الذي كان له عظيم الأثر في تطور علم الرياضيات في شتى أنحاء العالم.
بيت الحكمة مركز العلم في قلب بغداد
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور محبًّا لكتب الطب والنجوم والهندسة والآداب وجمع العديد من تلك الكتب في قصر الخلافة، وعندما تولّى هارون الرشيد الخلافة قام بجعل تلك الكتب في مكتبةٍ عامّةٍ في قلب بغداد وأضاف إليها العديد من الكتب التي تمت ترجمتها في عصره لتصبح متاحةً لكل الناس أن يستفيدوا من العلوم الموجودة بها، وأطلق على تلك المكتبة اسم "بيت الحكمة"، وأضاف إليها جميع الكتب التي وجدها في الفتوحات مثل فتح "عمورية" و"أنقرة" حيث أمر بالحفاظ على جميع الكتب ونقلها بحرص وعنايةٍ، وعاش بيت الحكمة أزهى عصوره في زمن الخليفة "المأمون" حيث اهتم اهتمامًا كبيرًا بالترجمة من الكتب اليونانية واللاتينية وأصبح بيت الحكمة مركزًا عالميًّا للدراسات والترجمات وأنتج العديد من العلماء في شتى المجالات، ويُروى عن المأمون أنه كان يطلب من أعدائه من الروم المغلوبين أن يعطوه المخطوطات الإغريقية التي لديهم في مقابل توقيع معاهدات السلام أو في مقابل إطلاح سراح بعض الأسرى، كما أنه رُوي عنه أنه كان يشجع المترجمين فيعطيهم زنة ما ترجموه إلى العربية دنانير مما جعل عصر المأمون من أزهى عصور بغداد في الترجمة والنقل، كما أن ظهور أعلام المترجمين مثل "حنين بن إسحق" جعل عملية الترجمة نفسها تتطوّر كثيرًا من الترجمة الحرفية كلمةً بكلمةٍ إلى الترجمة بالمعنى فأصبحت التراجم أكثر ثراءً وأبلغ في المعنى من ذي قبل، ولعلّ من أكثر الدلائل على اهتمام بغداد بالترجمة في ذلك العصر أنه قد عُرف عن "حنين بن إسحق" وحده أكثر من 100 تلميذٍ من المترجمين.
كان هذا غيضًا من فيضٍ وصفحةً مضيئةً من تاريخ بغداد المليء بالأحداث، ولعل ما ذكرناه عن بغداد في العصور الوسطى يعطي للقارئ تصورًا ولو بسيطًا عمّا كانت عليهس تلك المدينة العظيمة من تطوّرٍ، ولنعلم مدى ما ساهمت به حضارة بغداد من تقدّمٍ في العلوم والفنون كانت ولازالت لها الفضل في اكتشافها بالرغم مما مرّت به من مآسٍ ومعاناةٍ على مر الزمن.