كيف تحيا حلب في رمضان
لشهر رمضان لون خاص في حلب والحلبيين. تبدأ هذه الخصوصية قبل شهر رمضان بأيام وأسابيع حيث يترقب الناس قدوم الشهر الكريم ويبدؤون التحضيرات بشراء بعض المواد التي لا غنى عنها في أية مائدة رمضانية، ويقوم البعض بتزيين البيوت والشرفات. في الليلة الأخيرة من شعبان يقوم كثير من الأهالي برصد هلال رمضان. ومع أن هذا التقليد غير مجد في الكثير من الأحيان، إلا أنه يدل على خصوصية شهر رمضان عند الحلبيين، وترقبهم واستعدادهم له. ويعبرون عن ابتهاجهم وفرحهم بقدوم الشهر الفضيل من خلال مجموعة من العادات التي ظل قسم منها كما هو منذ قرون، وعدل قسم آخر بما يتماشى مع متغيرات الزمن.
هناك مدفع رمضان الذي يعلن ثبوت رؤية الهلال رسمياً، وبداية الشهر المبارك. وتجدر الإشارة إلى أن قلعة حلب الأثرية كانت تحتوي على واحد وعشرين مدفعاً رمضانياً تعلن ليس فقط بداية الشهر ونهايته، بل تعلن أيضاً موعد الإفطار اليومي. ولكن معظم هذه المدافع نقل خارج المدينة في الآونة الأخيرة، وأصبح مدفع رمضان مقتصراً على إعلان بداية الشهر.
ثم السحور الأول وله نكهة لا مثيل لها، وخصوصاً عند الأطفال المتحمسين للصيام ربما للمرة الأولى في حياتهم. ومع أن كثيراً منهم قد لا يكمل الصيام حتى وقت المغرب، وإنما يفطر قبل ذلك، إلا أن بهجة الأطفال ببراءتهم، وترحيبهم بقدوم شهر رمضان قد تتجاوز أحياناً بهجة الكبار، فكل شيء عندهم جديد. ونذكر هنا أن من تقاليد رمضان الحلبية هي تكريم الطفل في أول يوم صيام له بصدر من الحلوى.
يرتبط السحور أيضاً بالمسحراتي الذي يجوب الشوارع والحارات بملابسه التقليدية، ويتكفل بمهمة إيقاظ الناس من أجل السحور، وتنبيههم إلى اقتراب موعد الإمساك. فتراه يطرق أبواب البيوت في الحارات الشعبية، وينادي بصوته الشجي على سكانها بأسمائهم أحياناً من مثل "يا فلان وحّد الله"، "يا نايم وحّد الدايم"، "يا صايم من فرشتك قم"، قارعاً دفّه التقليدي، ومضيفاً ترانيمه وأهازيجه. ومع أن الحاجة الحقيقية إلى المسحراتي ومهمته التراثية في إيقاظ الناس من نومهم انتفت منذ مدة طويلة بوجود المنبهات الحديثة، إلا أن وجوده يظل تقليداً متبعاً، يحاول أهل حلب المحافظة عليه لما له من رمزية عندهم. وليس مستغرباً أن يسهر الناس خصّيصاً في انتظار قدومه وسماع نداءاته ومواويله الحلبية التي تملأ ليالي رمضان. وليس مستغرباً كذلك أن يطلب الأطفال الأذن بالسهر للسبب ذاته، وقد يجابون إلى طلبهم في الكثير من الأحيان.
وطالما أننا نتحدث عن التقاليد الليلية، فلا بد أن نذكر فوانيس رمضان التي كانت تشعل في الماضي لإضاءة الطرقات ليلاً. ومع أن الحاجة إليها ـــــــ هي الأخرى ـــــــ انتفت بوجود أنوار الطرقات، إلا أنها تعود الآن إلى الواجهة لأنها رمز من رموز شهر رمضان، وـتصنع الآن بتصاميم حديثة تذكّر بالتصاميم التراثية التقليدية، ولا يكاد بيت يخلو منها.
لرمضان عند أهل حلب طقوس لا تعد ولا تحصى، يتعلق الكثير الكثير منها بالطعام والشراب، وهو أمر طبيعي لأن الصائمين يمتنعون عن الأكل والشرب طيلة النهار ويريدون الاستمتاع بوجبة إفطار تعوضهم عن مشقة نهار كامل. وهذا صحيح في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، إلا أن لحلب ـــــــ تاريخياً ـــــــ علاقةً خاصةً مع المأكل والمشرب، ما يضفي على وجبات الإفطار الرمضانية نكهة حلبية بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة. يعزو بعض المؤرخين التفنن الحلبي في الطعام والشراب إلى عدة عوامل منها موقع حلب الجغرافي على طريق القوافل بين الشرق والغرب، ما جعل منها بوتقة انصهرت فيها الثقافات، وقد يكون المطبخ الحلبي مرآة لهذا التنوع الثقافي. للمطبخ في حلب إذاً شأن استثنائي ذو سمعة شهيرة في سورية كلها، ولكنه في شهر رمضان تتضاعف أهميته؛ فيهتم الحلبيون وخصوصاً الحلبيات بأصناف الطعام والشراب والحلويات اهتماماً بالغاً، ولهذا فإن الموائد الرمضانية الكبيرة العامرة بمختلف أصناف الأطعمة والمشاريب هي من العادات الحلبية المتأصلة. هذه العادة تكاد تقتصر اليوم على أفراد الأسرة بسبب الوضع المعيشي، ومع ذلك يحافظ الحلبيون على إحيائها لأنها ركن أساسي من طقس الإفطار في رمضان.
من طقوس هذه المائدة الرمضانية مثلاً دعوة الأهل والمقربين في منزل العائلة الكبيرة. فتدعو الأم أولادها وأسرهم إلى إفطار اليوم الأول الذي يجب أن يحتوي على المشاوي. ثم هناك أنواع ورق العنب المحشو باللحم والرز (اليبرق)، وأنواع الكبة التي تتميز فيها مدينة حلب (سجل في حلب خمسون نوعاً من الكبب التي لا تتسع هذه المقالة لحصرها)، والمحاشي، إضافة إلى ثوابت مائدة الإفطار وهي برك الجبنة وأنواع الحساء وأصناف السلطات التي لا حصر لها. هذا بالإضافة إلى المعروك (وهو نوع من الخبز السميك المعطر بماء الزهر، وازداد التفنن في الإضافات إليه في السنوات الأخيرة، كالشوكولا والسمسم وغيرها)، وأطباق الحلوى التي تتميز بها مدينة حلب، والتي لا تؤكل إلا في هذا الشهر، كغزل البنات (وهي مزيج من الطحين والسكر المغزول) والكرابيج المحشوة بالقشطة، والشعيبيات بمختلف أصنافها (وهي رقائق عجين محشوة بالجوز أو القشطة أو الفستق ومخبوزة بالفرن)، والقطايف بالعسل، وحلوى الفستق الحلبي التقليدية التي تتكون من قشور الفستق المطحونة وعجينة الجلاش وماء الورد. أما المشاريب فتشمل قمر الدين (وهو مصنوع من المشمش، وقد يصنع سميكاً فيؤكل أكلاً)، ومنقوع التمرهندي والسوس، ولا ننسى أنواع العصائر المختلفة التي تروي الظمأ وتغذي الصائم بما فيها من فيتامينات. ويحضّر الكثير من هذه المشروبات يدوياً في البيوت.
من مميزات المطبخ الحلبي عموماً ــــــ وليس في شهر رمضان فقط ــــــ الاستخدام الكثير للفلفل الحار مع مختلف أنواع الطعام، وكذلك دقة استعمال التوابل في الطعام، هذه الدقة التي جاءت نتيجة الخبرات المتراكمة على مدى العصور، واطّلاع أهل حلب على مختلف التوابل التي وصلتهم من مختلف أصقاع الأرض.
ويبقى أن نذكر أن تذوق الطعام سمة أساسية عند أهل حلب، مهما كان وضعهم الاجتماعي، ولكن الفارق بين موائد الأغنياء والبسطاء هو في عدد الأصناف، وليس في نوعيتها. ومن التقاليد التي مازال أهل حلب يحافظون عليها تبادل "السكبات" بين الجيران والسكبة هي مقدار من طبق محضر في البيوت يرسل مع أحد الأطفال إلى الجيران لكي يتذوقوه، ويقوم الجيران بدورهم بإرسال "سكبة" من طبقهم المحضر ذلك اليوم، أو ربما في اليوم الذي يليه.
أما وجبة السحور فأصبح الاعتماد في تحضيرها على ما تبقى من وجبة الإفطار لأسباب اقتصادية من جهة ولرغبة الناس في عدم رمي بقايا الطعام من جهة ثانية.
فإذا تركنا الطعام جانباً، نذكر أن من تقاليد رمضان في حلب اللقاءات الاجتماعية سواء أكانت زيارات عائلية أو بين الأصدقاء أم لقاءات في المقاهي بعد الإفطار. فالمقاهي وكذلك حمامات السوق لا تغلق أبوابها حتى الفجر. وفي المقاهي الشعبية يستمع الرواد إلى قصص الحكواتي الذي يروي قصصاً تاريخية بأسلوب مرح يتفاعل معه الجالسون. كما يتم في هذه اللقاءات تبادل التهاني والتبريكات والأحاديث المتنوعة ومسامحة الآخرين والمصالحة وحل الخلافات، فهذا جوهر الصيام في الحقيقة.
يكثر أهل حلب من التعبد في شهر رمضان، ومن العادات المتأصلة أيضاً صلاة التراويح بعد العشاء، والإكثار من الأدعية وقت السحور، وكذلك التقرب من الله عن طريق فعل الخير والتصدق على المحتاجين، وإيتاء زكاة الفطر قبل العيد، وهي ركن أساسي من أركان الإسلام. وفي حلب يوجد الكثير من الجمعيات الخيرية التي تختص بإيصال المساعدات في رمضان إلى مستحقيها. وفي الأيام الأخيرة من الشهر الكريم يحتفي أهل حلب بليلة القدر وهي ليلة مباركة ولها قدسية خاصة عند المسلمين لأنها ليلة نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
من التقاليد الرمضانية التي ترسخت في السنوات الماضية هي المسلسلات الرمضانية، وهي تقليد يزداد كل عام ليس في حلب وحدها بل في كل سورية. قد يتبادر إلى الذهن أن هذا التقليد يضعف الحياة الاجتماعية لأنه يقلل من اللقاءات، وهذا قد يكون صحيحاً في بعض الأحيان، ولكن البرامج التلفزيونية والمسلسلات الرمضانية تغدو ـــــــ من جهة ثانية ـــــــ فرصة لتبادل الأحاديث، وتسمح بالكثير من النقاشات وتبادل الأفكار حول هذا المسلسل أو ذاك، وهذا يقوّي التفاعل بين الناس في كثير من الأحيان.
من الطقوس الرمضانية التسوق للعيد، وخاصة في النصف الثاني من الشهر حيث تفتح الأسواق الليل كله، ويذهب الناس إلى الأسواق للتبضع أو لمجرد التفرج على الأسواق التي تضج بالحياة وتتزين بالزينة والأنوار التي لا تنطفئ طوال الليل. في رمضان أيضاً يفتتح في حلب الكثير من الأسواق الخيرية التي تهدف إلى توفير البضائع الرمضانية بأسعار مناسبة يستطيع الناس تحمل كلفتها.
في أواخر أيام رمضان أيضاً يبدأ الناس بالتحضير لحلويات العيد كالكرابيج والكعك والحلويات الشرقية التي تشتهر فيها مدينة حلب.
في العام المنصرم وبعد تضرر المدينة من جراء الزلزال الذي أصابها، جرى ترميم بعض الأماكن الأثرية كالخانات القديمة التي يرجع بعضها إلى أكثر من ألف عام، وأصبحت تقام فيها أنشطة اجتماعية وثقافية متنوعة وخصوصاً في حلب القديمة. هذه الأنشطة تذكر بطقوس رمضان القديمة وتهدف إلى إعادة الألق إلى المدينة واستعادة الذكريات التي انقطعت مدة من الزمن. من هذه الأنشطة تقديم رقصات مولوية (وهي رقصات تراثية معروفة في سورية) والأناشيد الدينية. كما يستمع الحضور إلى الأغاني الطربية والقدود الحلبية المشهورة والتي أصبحت جزءاً من التراث الإنساني العالمي وليس فقط السوري. يشارك الحلبيون والحلبيات في هذه الأنشطة وكلهم أمل في أن تعود مدينتهم المحبوبة بقوة إلى الفرح والأصالة والعراقة.