دمشق، ربّما أقدم مدينة مأهولة في العالَم

تقع مدينة دمشق في الجنوب الغربي من سوريا على مقربة من لبنان (100 كيلومتر عن بيروت) والأردن (150 كيلومتر عن عمان) وفلسطين (نحو 100 كيلومتر عن حيفا)، وعلى الحدود الشمالية لبادية الشام. وتحيط بدمشق وسهلها المرتفعات، كالسوار حول المعصم، تقريباً من الشمال والغرب والجنوب الغربي تاركة جهة الشرق تطلّ على بادية بلاد الشام المترامية الأطراف التي تمتد حتى العراق والمملكة العربية السعودية. ويوفر هذا الموقع لمدينة دمشق مناخاً معتدلاً شتاءً، وتيار هواء لطيف وعليل يهب صيفاً من جهة الغرب عبر فتحة وادي نهر بردى الذي يغذي دمشق بالماء ويتشعّب إلى سبعة فروع في سهلها الخصيب المعروف بغوطة دمشق التي كانت وما تزال تُنتج أجود أنواع الخضار والفواكه، رغم محدودية مساحتها التي تقارب مساحة دائرة قطرها نحو 25 كيلومتر. ولعل هذا الموقع والمناخ ووفرة الماء وخصوبة الأرض تُفسّر نشوء الحياة واستمرارها في مدينة دمشق منذ آلاف السنين.

تتعدد المعاني والدلالات حول اسم المدينة، فالبعض ينسبه إلى زوجة إله الماء الإغريقي داماكينا (Damakina)، والبعض يقيم ترابط هذا الاسم مع الشمس (sun)، واحد من أولاد آرام (Mash)، والبعض يرى صلة مع شامة الوجه، إذ تُمثّل مدينة دمشق وغوطتها شامة على وجه الصحراء المحيطة. ورد ذكر دمشق على جدار معبد الكرنك في عهد تحتمس الثالث في حوالي العام 1468 قبل الميلاد، لكن الدلائل تُشير إلى استقرار الاستيطان فيها منذ نحو 9000 عام قبل الميلاد. ويطلق البعض على دمشق تسمية أرض الأنبياء، نظراً لتعدد الرسل والمبشرين الذين عاشوا أو مروا بها، مثل أوز (Uz)، أحد أحفاد النبي نوح، ومقام آدم على جبل قاسيون المجاور للمدينة، ومغارة منطقة برزة التي اعتكف فيها الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب للصلاة.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

يحيط بمدينة دمشق القديمة ذات الشكل البيضوي والتي تبلغ مساحتها حوالي 128 هكتاراً الأسوار من جميع الجهات، مع قلعة وسبعة بوابات رومانية تحمل الأسماء التالية: باب الصغير، المُكرّس لكوكب المريخ؛ باب الفراديس، المُكرّس لكوكب عطارد؛ باب السلام، المُكرّس للقمر؛ باب توما، نسبة للقديس توما الرسول؛ باب شرقي عند الجهة الشرقية للمدينة، المحافظ على شكله الروماني دون عمليات ترميم، والذي يُشير إلى الشمس؛ باب كيسان، المُكرّس لكوكب زُحل، على اسم أحد حرّاس الخليفة الأموي معاوية؛ وأخيراً باب الجابية، المُكرّس لكوكب المُشتري، على اسم قرية الجابية، وهو نظير الباب الشرقي وبينهما الشارع المستقيم، أطول شارع في العالم عند تشييده.

الجامع الأموي وسط المدينة القديمة

في وسط مركز دمشق القديمة، يقع الجامع الأموي الذي بُني في موقع معبد حدد الذي أصبح معبد الإله جوبيتر أيام الرومان، ومن ثم كنيسة يوحنا المعمدان، وأخيراً الجامع الأموي البديع نتيجة اتفاق بين الخليفة الوليد والمسيحيين. يحد الجامع جنوباً حي البزورية، وغرباً سوق الحميدية، وشرقاً مقهى النوفرة، وشمالاً المدرسة العزيزية وضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي. تبلغ مساحة الجامع حوالي 97 * 157 متراً مربعاً، ويقسم إلى قسم الحرم المغطى والفناء المفتوح (صحن الجامع). يشتهر الجامع بمآذنه الثلاث: مأذنة العروس شمالاً؛ مأذنة عيسى شرقاً؛ ومأذنة قيتباي غرباً، وقبة النسر فوق الحرم الذي يحتوي على ضريح النبي يوحنا المعمدان. وتتوزع في الفناء قبة الساعات وقبة الخزنة وقبة الوضوء أو البركة. ولعلّ أبرز جماليات هذا الجامع لوحات الفسيفساء التي تغطي واجهة الحرم وبعض الجدران المطلة على الفناء. وتُمثّل هذه اللوحات مشاهد من الجنة الموعودة. استغرق بناء الجامع الأموي نحو تسع سنوات، وبلغت تكاليف البناء نحو خمسة ملايين وستمائة دينار ذهبي، وهذا ما يكافئ إنتاج الشام سبع سنوات.

محطة الحجاز

تحتضن مدينة دمشق العديد من الأوابد التاريخية الأخرى، ولعلّ أبرزها قصر العظم، والتكية السليمانية، وقلعة دمشق، وخان أسعد باشا، وكنيسة حنانيا، والكنيسة المريمية، وسوق مدحت باشا المغطى، وسوق الحميدية المغطى أيضاً، وعدد من الحمامات الأثرية العامة، وعدد من البيوت الدمشقية النموذجية، والمكتبة الظاهرية، ومحطة الحجاز. ويعكس قصر العظم الهندسة العمرانية للبيت الدمشقي من حيث توزيع الغرف والصالات والخدمات على طابقين، سفلي وعلوي، والفضاءات الخارجية (صحن الدار) مع نباتانها، وخاصة الياسمين والفل وشجر النارنج والليمون والكباد، ونوافير الماء والبحيرات، والحرص الدائم توفير الراحة والاسترخاء للساكنين والضيوف. ومن المُلفت للنظر أن المظهر الخارجي للبيت الدمشقي لا يُظهر جمالياته الداخلية. ومن برز البيوت الدمشقية، وأشهرها بيت خالد العظم ، وبيت أحمد السباعي ، وبيت النابلسي، وبيت القوتلي ، وبيت دحدح، وبيت المعلم. وقد سحرت هذه البيوت الراقية الرحالة الذين تدفّقوا على المشرق.

خان أسعد باشا

ومثل العديد من المدن في الشرق، تشتهر دمشق بأسواقها التخصصية، مثل سوق الذهب، وسوق البزورية، وسوق الصوف، وسوق الحرير وسوق النحاس، وغيرها. كما تحتضن دمشق العديد من الحرف مثل النقش على النحاس، وصناعة الذهب والفضة والمجوهرات، وصناعة اللوحات والصناديق والعلب الخشبية المُطعّمة بالصدف أو المكسوة بالموزاييك (قطع صغيرة من الحجارة أو الرخام أو الصدف أو المعدن تُرصف بجانب بعضها البعض وتُلصق)، والفواكه المُجففة، وصناعة السيوف الدمشقية، والنجارة والدهان، وصناعة نسيج البروكار من خيوط الحرير المُطعّم بخيوط الذهب (نسيج الدمقس من كلمة دمشق). ومن المعروف أن الملكة إليزابيت الثانية قد ارتدت في حفل زفافها رداءً من هذا النسيج. كما احتلت سوريا تاريخياً مكانة مرموقة في بتربية دودة القز وإنتاج الحرير حتى بداية القرن العشرين، حيث بدأت تتراجع هذه الحرفة بسبب انتشار الخيوط الصنعية.

مخطط مدينة دمشق الكبرى، ودمشق القديمة في الوسط

حتى القرن الثامن عشر، اقتصرت دمشق على المدينة القديمة ضمن الأسوار وحي الميدان خارجها، وبلغ عدد سكانها حوالي 100 ألف نسمة. ومع ضرورات التوسع، بدأ البناء خارج الأسوار، وأصبح هناك أحياء داخل الأسوار، وأخرى خارجها، مثل حي العمارة الداخلي، وحي العمارة الخارجي، حي الشاغور الداخلي، وحي الشاغور الخارجي. وفي منتصف القرن العشرين، بلغ عدد سكان دمشق نحو 500 ألف نسمة. أما الآن، فإن عدد سكانها يقترب من 10 مليون نسمة، مع توسع عمراني على حساب غوطة دمشق.

وكما سبقت الإشارة، تحيط غوطة دمشق بالمدينة من جميع الجهات تقريباً، وتُمثلّ هذه الغوطة متنفساً طبيعياً للمدينة، حيث يخرج الناس أيام العطل إلى أطرافها مع جميع لوازم تحضير الطعام والجلوس والاسترخاء لقضاء يوم كامل في أحضان الطبيعة وتحت ظلال أشجار الفواكه الوارفة، والعودة مساءً إلى بيوتهم. ومن أبرز مناطق الاستجمام قرب دمشق، تُعدّ منطقة الربوة القربية من المدينة من أهمها، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي على مسافة عدة كيلومترات على جانبي وادي نهر بردى بين دمشق وضاحي دمّر.

الصورة عبر 2SIF على pixabay

فيما يتعلق بالطعام والمطبخ الدمشقي، تشتهر هذه المدينة بعدد من الأطباق، لعلّ أهمها الخضار المحشوة كالكوسا والباذنجان والفليفلة، والكبة (مزيج من البرغل واللحمة الناعمة يُخلط جيداً ويُعجن ويجري تشكيله وحشوه بمزيج اللحم والبصل) بأنواعها، والسلطات المتنوعة مثل التبولة والفتوش، وبابا غنوج، والمخللات، ومشاوي لحم الخروف اللذيذ والدجاج المتنوعة. ولا تخلو طاولة الطعام من نحو عشرة أطباق مقبلات وسلطات، والطبق الرئيسي، والرز والخضار والحلويات. وتتعدد أنواع الحلويات المنزلية أو الحرفية التقليدية، حتى أنها تُعدّ بمثابة صناعة تلبي الطلب المحلي، وتُصدّر منتجاتها إلى جميع أنحاء العالم. ومن أبرز هذه الحلويات، الكنافة والمبرومة، وكل واشكر، والهريسة، والمدلوقة. وتجتمع في هذه الحلويات مواد أولية من الطحين والسمن أو الزبدة والسكر والمُكسّرات من فستق حلبي ولوز وجوز وبندق، مما يضفي عليها نكهة ومذاقاً وألوان بديعة.

حرم الجامع الأموي

على مر التاريخ، احتلت دمشق مكانة بارزة دينياً واقتصادياً وسياسياً، وقد ذُكرت دمشق مرات متعددة في الكتب السماوية من التوراة حتى الإنجيل والقرآن الكريم. وعندما تُذكر دمشق عند الأتراك، يُضاف دوماً كلمة شريف، فيقولون شام شريف. وعند المسيحيين، تُعدّ دمشق طريق الهداية والإيمان على خطى القديس بولس الرسول الذي جاء دمشق مُلحداً وخرج منها مبشراً بالمسيحية. ومن هنا جاءت أهمية زيارة بابا روما إلى سوريا في تسعينات القرن العشرين. وفي هذا السياق، تتعايش في دمشق القديمة خصوصاً، وفي سوريا على العموم جميع طوائف الديانات السماوية، حيث يمارس أتباعها جميع معتقداتهم في دور عبادتهم الخاصة، وجميع عاداتهم وتقاليدهم العائلية والاجتماعية. كما يتشاركون في المناسبات والأعياد الخاصة بكل منهم. وعلى المستوى الرسمي، تُعدّ أعياد هذه الديانات أعياداً وطنية وعطلة رسمية للدولة، وتتضمن المناهج الدراسية مقررات لتدريس الثقافة الدينية لأتباع كل دين. ويُعدّ المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن انتمائهم الديني، وتتاح الوظائف العامة مهما كانت مرتبتها، باستثناء الوظائف الدينية، أما جميع المواطنين دون تمييز. وفي جميع العهود، تجد رجال سياسة وأعلام، وشعراء وأدباء، وأطباء ومهندسين وفنانين من جميع الطوائف.

احتضنت دمشق أهم الحضارات وعاش فيها أهم المشاهير في التاريخ وفي الأدب والشعر والفكر والثقافة والفلك ورجال الدين والفقه والعلوم الدينية الإسلامية والمسيحية والطب والصيدلة وغيرها، إضافة إلى الملوك والأمراء والسلاطين. وهي تأوي دور العلم التاريخية ومراكزه ومدارسه التي قصدها باحثون عن العلم والمعرفة على مرّ العصور.

الصورة عبر Iyad على pixabay

تُعدّ دمشق عاصمة الثقافة عبر تاريخ عريق حافل بالآداب، ويقام فيها الكثير من النشاطات الثقافية، وتنتشر فيها العديد من المراكز الثقافية المحلية والدولية مثل المركز الثقافي الفرنسي، والمركز الثقافي الأسباني، والمركز الثقافي الروسي، والمركز الثقافي الألماني .. وغيرها، كما يوجد فيها الكثير من المسارح ودور السينما والمتاحف المتخصصة مثل متحف دمشق ومتحف الخط العربي. وهناك معلم هام من المعالم الثقافية للمدينة هو دار الأسد للثقافة ودار الأوبرا السورية وغيرها.وتكتنز دمشق تراث ثقافي وطني غني بالإصدارات في مجالات الثقافة والأدب والشعر والعلوم والموسيقى والفن، مما يجعل من هذه المدينة عاصمة للثقافة ، وقد اختيرت دمشق - عاصمة للثقافة العربية في عام 2008.

وهكذا، بقيت دمشق أمينة على تاريخها، وعلى مكانتها كملتقى ثقافي وفكري، ومركز إشعاع حضاري، وبوتقة تنصهر فيها ثقافات متعددة في خدمة رسالة إنسانية جامعة. كما تستمر دمشق في دورها الاقتصادي كمركز تواصل وتبادل بين الشعوب والأمم على طريق التنمية والازدهار.

المزيد من المقالات