جامع الزيتونة: رحلة عبر التاريخ والعمارة الإسلامية في تونس

جامع الزيتونة هو أقدم وأشهر مسجد في تونس العاصمة، ويعتبر من أهم المعالم الدينية والعلمية والمعمارية في البلاد. يقع الجامع في قلب المدينة القديمة، ويحيط به سوق الزيتونة الذي يضم العديد من المحلات التجارية والحرفية. يعود تاريخ تأسيس الجامع إلى القرن السابع الميلادي، وقد شهد على مر العصور العديد من التغييرات والتوسعات والترميمات. كما كان الجامع مركزا للتعليم والبحث والنشر في مختلف العلوم الشرعية والعربية، وخرج منه جيل من العلماء والمفكرين الذين أثروا في الحضارة الإسلامية والعالمية. في هذا المقال، سنتعرف على تاريخ وتأسيس جامع الزيتونة، وهندسة وزخرفة بنائه، وجامعة الزيتونة ومكتبة جامع الزيتونة، وسنبرز قيمة هذا المعلم كرمز للتراث والهوية التونسية.

التاريخ والتأسيس

التأسيس

تأسس جامع الزيتونة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 79 هـ/698 م، وكان ثاني مسجد يبنى في تونس بعد فتحها من قبل العرب. وقد أمر ببنائه حسان بن النعمان حاكم افريقية. وكان الجامع في بدايته مساحة صغيرة محاطة بجدار من الطوب، ولم يكن له قبة أو منارة. وقد سمي الجامع بالزيتونة نسبة إلى الزيتون الذي كان ينمو في محيطه، وهو اسم يعني الزيتونة الصغيرة.

التوسعات والترميمات

مع مرور الزمن، شهد الجامع العديد من التغييرات والتوسعات والترميمات على يد الحكام والأمراء الذين تعاقبوا على حكم تونس. ففي عهد الأغالبة، أضيفت إليه قبة ومنارة ومحراب، وزين بالفسيفساء والرخام. وفي عهد الفاطميين، تم توسيع الجامع، وإضافة أروقة، وأعمدة، ومصابيح.

في عهد الحفصيين، تم تجديد الجامع وإعادة بناء بعض أجزائه، وزين بالخزف، والنحاس، والذهب. وفي عهد العثمانيين، تم ترميم الجامع وتحسين بنيته التحتية، وزين بالألوان والزهور. وفي عهد الجمهورية التونسية، تم تنظيف الجامع وإزالة بعض التعديلات السابقة، وأعيد إليه بعض العناصر الأصلية. وتم حماية الجامع وتصنيفه كموقع تاريخي وثقافي، وأجريت له بعض الأعمال الصيانة والتجميل.

الهندسة والزخرفة

يتميز جامع الزيتونة ببنائه الفريد والمتناسق، الذي يجمع بين مختلف الأساليب والتأثيرات الهندسية والفنية التي مر بها الجامع على مدى العصور. يبلغ طول الجامع من الشرق إلى الغرب حوالي 120 مترا، وعرضه من الشمال إلى الجنوب حوالي 80 مترا، ويحتوي على 184 عمودا و17 رواقا و9 أبواب و8 محاريب. يتكون الجامع من ثلاثة أقسام رئيسية: البناء الخارجي، والبهو، والقبة.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

البناء الخارجي

الصورة عبر wikimedia

البناء الخارجي هو الجزء الذي يظهر للناظر من الخارج، ويتألف من الجدران، والأسقف، والمنارة، والأبواب. الجدران مبنية من الحجر والطوب والجص، ومزينة بالنقوش، والزخارف الهندسية، والنباتية، والكتابية. الأسقف مغطاة بالقرميد الأحمر، وتحمل بعضها قبابا صغيرة مضاءة.

المنارة هي العنصر الأبرز في البناء الخارجي، وهي عبارة عن برج مربع الشكل، يرتفع حوالي 44 مترا، ويتكون من ثلاثة طوابق، وينتهي بشكل هرمي. الأبواب هي المداخل إلى الجامع، وهي تسعة أبواب موزعة على الجهات الأربع، وتتميز بأشكالها المنحنية وألوانها المتعددة وزخارفها الفنية.

البهو

الصورة عبر wikimedia

البهو هو الجزء الذي يستقبل الزائر عند دخوله الجامع، ويتألف من الأروقة والأعمدة والمحاريب.

الأروقة هي الممرات التي تحيط بالبهو من الجهات الأربع، وتتكون من 17 رواقا، كل رواق يحتوي على 11 عمودا. الأعمدة هي الدعامات التي تحمل الأسقف والقباب، وهي 184 عمودا، مصنوعة من الرخام والجرانيت والحجر، ومستوردة من مختلف البلدان والحضارات.

المحاريب هي الفتحات المنحنية في الجدران، التي تشير إلى اتجاه القبلة، وهي ثمانية محاريب، كل محراب يختلف عن الآخر في شكله وحجمه وزخرفته.

القبة

الصورة عبر wikimedia

القبة هي الجزء الأعلى في الجامع، وهي عبارة عن سقف مقوس، يرتكز على أربعة أعمدة كبيرة، ويزينها نجمة ثمانية الأضلاع.

تحت القبة، يوجد المحراب الرئيسي، الذي يتميز بشكله الهلالي وزخرفته الفسيفسائية والخشبية. بجانب المحراب، يوجد المنبر، الذي هو عبارة عن كرسي خشبي مرتفع، يستخدم لإلقاء الخطبة.

جامعة الزيتونة

الصورة عبر wikimedia

جامعة الزيتونة هي مؤسسة تعليمية وبحثية، تابعة لجامع الزيتونة، ومتخصصة في العلوم الشرعية والعربية. تعتبر جامعة الزيتونة أول جامعة في تونس وأقدم جامعة في العالم الإسلامي، حيث تأسست في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، واستمرت في العمل حتى القرن الرابع عشر الهجري/العشرين الميلادي

كانت جامعة الزيتونة مرجعا علميا وفكريا للعديد من الطلاب والعلماء والمفكرين من مختلف البلدان والمذاهب والاتجاهات، وأنتجت منها مؤلفات ومخطوطات ذات قيمة عالية.

كانت جامعة الزيتونة تتبع منهجا تعليميا متميزا ومتطورا، يرتكز على الاستناد، والاستدلال، والنقد، والمناقشة. كانت المناهج والمواد التي كانت تدرس في الجامعة تشمل مختلف العلوم الشرعية والعربية، مثل الفقه والحديث والتفسير والعقيدة واللغة والأدب والبلاغة، والنحو، والصرف والعروض.

كانت طرق التدريس في الجامعة تتضمن الحلقات والدروس والمحاضرات والمناظرات، والامتحانات، والإجازات، والشهادات.

كانت جامعة الزيتونة مصدرا للعلم والفكر والإبداع للعديد من العلماء والمفكرين الذين تخرجوا منها أو تأثروا بها. من بين هؤلاء العلماء والمفكرين، نذكر بعض الأمثلة: العلامة ابن خلدون، الذي عمل في الجامعة وألف مقدمته الشهيرة في التاريخ والحضارة. وابن عرفة، الذي كان فقيها ومفسرا ومتصوفا في الجامعة وألف تفسيره القرآني العميق.

مكتبة جامع الزيتونة

الصورة عبر wikimedia

مكتبة جامع الزيتونة هي مكتبة عامة وبحثية، تابعة لجامع الزيتونة، ومتخصصة في المخطوطات والكتب النادرة والقيمة. تعتبر مكتبة جامع الزيتونة أغنى وأقدم مكتبة في تونس وواحدة من أهم المكتبات في العالم الإسلامي، حيث تأسست في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، واستمرت في العمل حتى الوقت الحاضر.

تحتوي مكتبة جامع الزيتونة على مجموعة كبيرة ومتنوعة من المخطوطات والكتب، تغطي مختلف العلوم والفنون والمواضيع، وتعكس تاريخ وحضارة تونس والعالم الإسلامي. سنة 1967 نقلت المكتبة من جامع الزيتونة إلى المكتبة الوطنية التونسية.

تقدر المصادر أن عدد المخطوطات والكتب الموجودة في مكتبة جامع الزيتونة يتراوح بين 30 ألف و40 ألف وحدة، تنقسم إلى: المخطوطات، والمطبوعات.

المخطوطات هي الكتب التي كتبت بخط اليد على المواد المختلفة، مثل الورق، والجلد، والحرير، والخشب. تعتبر المخطوطات أثمن وأندر الكتب في المكتبة، حيث تمثل حوالي 80% من مجموع المصادر.

المطبوعات هي الكتب التي طبعت بواسطة الآلات والمطابع على الورق. تعتبر المطبوعات أحدث وأكثر الكتب انتشارا في المكتبة، حيث تمثل حوالي 15% من مجموع المصادر.

من بين المخطوطات والكتب الموجودة في مكتبة جامع الزيتونة، نذكر بعض الأمثلة على المخطوطات النادرة والمهمة، التي تعود إلى العصور الوسطى والحديثة، وتتعلق بمختلف العلوم والفنون والمواضيع. من هذه الأمثلة:

•الموطأ للإمام مالك بن أنس، وهو أول كتاب في الفقه الإسلامي، وأحد الكتب الستة في الحديث النبوي، ويحتوي على حوالي ألفي حديث مرتبة على موضوعات فقهية.

•المستطرف في كل فن مستظرف للإمام الوزير أبي الفضل المؤيد بالله، وهو كتاب في الأدب والفنون والعلوم، يجمع بين الجد والهزل، ويحتوي على معلومات وحكايات ونوادر وأشعار، وأمثال، وألغاز، وفوائد.

•المقامات الحريرية للإمام الحريري، وهو كتاب في الأدب والبلاغة والنحو، يتألف من 50 مقامة أو حلقة، تصور حوارات بين شخصيتين رئيستين: أبو زيد السروجي، والحارث بن حمامة. ويتميز الكتاب بأسلوبه البديع ولغته الفصيحة ومعانيه العميقة.

•الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض بن موسى، وهو كتاب في السيرة النبوية والعقيدة الإسلامية، يتناول حياة وأخلاق وفضائل ومعجزات وحقوق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتبر من أشهر وأوسع الكتب في هذا المجال.

•المعجم الوسيط لمجموعة من العلماء، وهو كتاب في اللغة والمعجم، يشتمل على حوالي 150 ألف كلمة عربية، مرتبة حسب الحروف الأبجدية، ومشروحة معانيها ومشتقاتها، وأصولها، واستعمالاتها، وأمثلتها. ويعتبر من أشمل وأدق المعاجم العربية.

الصورة عبر DEZALB على pixabay

في هذا المقال، تعرفنا على جامع الزيتونة، وهو معلم تاريخي وثقافي في تونس، يضم بين جنباته مسجدا وجامعة ومكتبة. تناولنا تاريخ وتأسيس جامع الزيتونة، وهندسة وزخرفة بنائه، وجامعة الزيتونة ومكتبة جامع الزيتونة، وأبرزنا قيمة هذا المعلم كرمز للتراث والهوية التونسية. نأمل أن يكون هذا المقال مفيدا وممتعا للقارئ، وندعوه لزيارة جامع الزيتونة والاستفادة من مصادره وجماله.

المزيد من المقالات