طرابلس ليبيا.. عزة الماضي وأبواب المستقبل
طرابلس الغرب كما يحب أن يسميها العرب للتفريق بينها وبين طرابلس الشرق الواقعة في لبنان، هي عاصمة دولة ليبيا، وتقع في شمال غرب ليبيا على الساحل كامتدادٍ صخريٍّ داخل البحر الأبيض المتوسّط، تميّزت بموقعها الجغرافي الاستراتيجي والذي جعلها في يومٍ من الأيام حامية التجارة في البحر الأبيض المتوسط للدرجة التي أجبرت أمريكا على دفع الجزية في القرن التاسع عشر لأمراء طرابلس للسماح لسفنهم التجارية بالعبور في أمانٍ، وعندما امتنع الرئيس الأمريكي
"توماس جيفرسون" عن دفع الجزية تم منع السفن الأمريكية من العبور بالقرب من سواحل ميناء طرابلس، مما كان سببًا في اندلاع حربين متتاليتين بين أمريكا وليبيا انتهت أولاهما بهزيمةٍ مذلّةٍ للبحريّة الأمريكيّة وأسر سفينتهم الحربية "فيلادلفيا" وجميع أفراد طاقمها بما فيهم قائد السفينة "ويليام بينبريدج"، وقامت أمريكا بعمليّةٍ نوعيّةٍ هدفها إحراق سفينتهم الحربية "فيلادلفيا" التي تم أسرها كمحاولةٍ لمحو العار الذي ألمّ بهم مما لفت انتباه العالم الغربي كله لضرورة الاستيلاء على مدينة "طرابلس" ذلك الموقع الاستراتيجي الهام، وقد كان لهم ذلك في القرن التاسع عشر على يد الإيطاليين بعد أن استولى العثمانيون عليها نتيجة استغلال الضعف والتشتت الداخلي الذي دبّ فيها، فأعلنوا تسليمهم طرابلس للإيطاليين في معاهدة "لوزان" عام 1913م لتعلن صفحةً جديدةً في تاريخ كفاح الشعب الليبي ضد المستعمرين. فيالها من مدينةٍ وياله من تاريخٍ مشرّفٍ لا يمكن محوه مهما حاول المحتلّ تبرير جرائمه سيعلم الأحرار أن أهل طرابلس قد دفعوا وما زالوا يدفعون كل غالٍ ونفيسٍ في سبيل دينهم ووطنهم.
أصل التسمية
ترجع تسمية المدينة إلى فترة الحكم الإغريقي للبلاد، حيث أطلقوا عليها اسم "تريبولي" وتعني المدن الثلاث، لكن في الحقيقة يرجع تاريخ مدينة طرابلس إلى أقدم من ذلك حيث تدلّ الآثار على وجودها في القرن السابع قبل الميلاد وأنه قد تم تأسيسها على يد الكنعانيين الفينيقيين كمركزٍ للتجارة البحرية.
محطات تاريخية محورية في تاريخ طرابلس
مرّت مدينة طرابلس بالعديد من المراحل التاريخية الهامة التي تركت بصمةً في حياة أهلها وألقت بظلالها على مستقبلهم، فالموقع الجغرافي للمدينة كان نقمةً عليها كما كان نعمةً، فاستولى عليها الإغريق من الفينيقيين لأهميتها التجارية، ثم توارثها الرومان وتركوا بها بعض الآثار مثل قوس ماركوس أوريليوس الذي كان امبراطورًا رومانيًّا مشهورًا، كما أنها خضعت لحكم قبائل "الوندال" في القرن الخامس الميلادي وتلاهم البيزنطيون في حكم طرابلس، حتى جاء الفاتحون المسلمون العرب في عام 645م واستقر بها الحكم الإسلامي حتى وصول الغزو النورماني الصقلي للمدينة بين عامي 1146- 1158م ثم استعادها المسلمون لأكثر من 350 سنة حتى وصول الغزو الإسباني عام 1510م ال1ين قامو بتسليمها لفرسان القديس يوحنا عام 1531م حتى استعان أهل طرابلس بالعثمانيين للتخلص من الحكم الإسباني وفرسان القديس يوحنا حيث تم لهم ذلك عام 1551م وأصبحت طرابلس ولاية عثمانية. بعد فترة من الزمن انفصل الوالي العثماني أحمد باشا بليبيا عن الدولة العثمانية وأسس الأسرة القرمانلية التي حكمت طرابلس ما يقرب من قرن من الزمان انتهى بتفكك الأسرة وعودة الحكم العثماني المباشر إلى طرابلس، واستمر العهد العثماني الثاني حتى سقوط الدولة العثمانية في مستنقع الحرب العالمية الأولى وتوقيعها معاهدة لوزان التي اقتضت تسليم طرابلس للإيطاليين. ظل الإيطاليون في حكمهم الدموي لمدينة طرابلس حتى تحرير ليبيا كنتيجة لهزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية وانتداب بريطانيا لفترة قصيرة انتهت عام 1951م وتأسيس المملكة الليبية التي سقطت بقيام انقلاب عام 1969م وقيام الجماهيرية الليبية الذي تزامن مع اكتشاف الثروات في ليبيا مما وفّر لها العملة الصعبة التي ساعدت كثيرًا على تعمير وتطوير مدينة طرابلس.
الحرب الأهلية الليبية عام 2011م
بدأت الحرب الأهلية بثوراتٍ واحتجاجاتٍ تندّد بالظلم والمطالبة بالحرّيّة كما حدث في معظم أقطار العالم العربي فيما يعرف باسم الربيع العربي، ترتب على إثرها الإطاحة بحكم العقيد القذافي وتسليم السلطة إلى مجلسٍ وطنيٍ انتقاليٍ، ومازالت البلاد لم تصل إلى توافقٍ بخصوص الحكم بين شرق ليبيا وغربها.
ثلاثة عشر عامًا من الثورة
قد يشعر البعض بالقلق إزاء طول المدة التي استغرقتها تلك الفترة الانتقالية بعد نهاية حكم العقيد معمر القذافي منذ ثلاثة عشر عامًا وانقسام السيطرة بين شرق ليبيا وغربها، إلا أن المؤشّرات والتحليلات تشير إلى تسارع النمو الاقتصادي لمدينة طرابلس خاصةً ولدولة ليبيا بصورةٍ عامّةٍ حيث بلغ معدل النمو السنوي ما يقرب من 4.4% عام 2022م بالرغم من الصعوبات والتحديات الكثيرة التي تواجه أهل ليبيا إلا أنها تعتبر من الدول الأسرع نموًّا في إفريقيا، وهو ما يُحسب لأهل ليبيا من إصرارٍ وعزيمةٍ على تثبيت أقدامهم والتواجد بصورةٍ واضحةٍ في المشهد العربي والإفريقي، كما أن مخزونها من النفط والغاز لازال في مقدمة الدول الأكثر احتواءً على الاحتياطي النفطي والغازي في العالم بما يقرب من 3% من الاحتياطي العالمي، فتخيّل عزيزي القارئ كيف سيكون حال ليبيا ومدينة طرابلس خاصّةً إذا تم التوصّل إلى توافقٍ بين شرقها وغربها ونبذ الخلافات الحالية في سبيل الوصول إلى برّ الأمان بالشعب الليبي. كلنا ثقةٌ بأن أهل ليبيا عامةً وطرابلس خاصةً كما حقنوا دماء إخوانهم في عام 2011م أنهم سيجتازون كل الصعاب وسيُرسون قواعد توافقية من شأنها أن تعلي من قيمة الفرد وترفع من شأن الدولة الليبية في آنٍ واحدٍ.