السرابيوم... أعظم لغز تحت الأرض
"عندما تصادفك الأسود الحجريّة المصطفّة بجانب بعضها .. اعلم أنّك وصلت إلى سراديب الموتى"
الجغرافيّ اليونانيّ " سترابو" في القرن الأوّل الميلاديّ
يحتوي تاريخ مصر على العديد من الأسرار الغامضة والألغاز التي لا يوجد لها مثيلٌ في العالم، من تلك الألغاز ذلك المكان في صحراء سقّارة الذي ذكره المؤرّخ والجغرافيّ اليونانيّ "سترابو". سنحكي لكم اليوم لغزًا من أعظم ألغاز العالم تحت الأرض.. لغز سراديب سرابيوم سقّارة.
فضول أوجست مارييت
ظلّت همسات "سترابو" طيّ الكتب و ظلّ اكتشافه القديم مدفونًا تحت الأرض لمئات السنين حتى جاء العالم الفرنسيّ " أوجست مارييت " بعد 1800 عامٍ من "سترابو" واكتشف مخطوطات "سترابو" التي تتحدّث عن لغز السرابيوم وقرّر أن يبحث عن ذلك المكان لمدّة عامٍ كاملٍ، فتتبّع المسار الذي ذكره "سترابو" في مخطوطته وانطلق في ذلك الطريق المرسوم حتّى وصل إلى تماثيل حجريّةٍ بين معبد الأقصر وفناء آمون، وفي عام 1851 ميلاديّة وجد "أوجست" مدخلًا تحت الأرض، عندما دخل إلى ذلك المكان عثر على توابيت حجريّةٍ عملاقةٍ يصل وزن الواحد منها إلى 100 طنّ، لم تكن تلك التوابيت هي اللغز الوحيد، بل كانت في المكان نفسه أيضًا الذي اشتهر باسم .. السرابيوم.
سبب تسمية السرابيوم بهذا الاسم
يرجع هذا الاسم إلى اللغة اليونانيّة القديمة، ويعني "مكان الإله سيرابيس". وسيرابيس كان إلهًا فرض اليونانيّون عبادته على المصريّين في القرن الثالث قبل الميلاد بأمرٍ من الفرعون اليونانيّ "بطليموس الأول" في محاولةٍ منه للدمج بين الحضارتين المصريّة واليونانيّة. وهو إله الشفاء عند المصريّين، وكان يصوّر على شكل الثور المقدّس "أبيس".
مدخل السرابيوم
لايمكن الدخول إلى السرابيوم إلّا من خلال مدخلٍ واحدٍ فقط، وإذا نظرنا إلى مدخل السرابيوم، سنجد أنّ المدخل ضيّقًا بعرض 3 أمتار و20 سنتيمترًا فقط، وهو نفس عرض التوابيت التي بالداخل، ممّا يعني أنّ التوابيت لا يمكنها أن تدخل من المدخل إلا بالطول، لكن كيف نقلوها ؟ ولماذا؟
افترض بعض العلماء أنّ تلك التوابيت وضعت أوّلًا في هذا المكان ثم تمّ بناء المكان حوله ثم ردمه، لكنّ هذا الاحتمال تمّ دحضه بسبب الدراسات التي أكّدت أنّ المكان صخريٌّ بالكامل وأنّه لا توجد أيّ أدلّةٍ على أيّ بناءٍ بل تمّ نحت المكان بالكامل تحت الأرض وأعلاه طبقةٌ صخريّةٌ طبيعيّةٌ بسُمك 12 مترًا.
فما الهدف من تلك السراديب؟ ولماذا يتحمّل المصريّون كلّ تلك المشقّة؟ هل هناك استخدامٌ آخر لذلك المكان الغامض؟
السرابيوم وعبادة الثور " أبيس"
تذكر بعض المخطوطات القديمة هذا المكان المسمّى بـ"السرابيوم" أنّه مكانٌ لدفن الجثث المحنّطة لثيران "أبيس" وهو معبودٌ مصريٌّ قديمٌ على شكل ثورٍ. فما هي قصّة "أبيس" ؟
قبل 5000 عامٍ، عندما يولد ثورٌ وحيدٌ لأمّه أثناء البرق، كان المصريّون القدماء يقدّسونه ويعبدونه ويقدّمون له رعايةً خاصّةً في حياته وبعد مماته، ويطلقون عليه اسم "أبيس"، ويقومون بدفنه في السرابيوم بجوار مدينة "ممفيس" الأثريّة. حدثت ضجّةً كبيرةً نتيجة اكتشاف "أوجست مارييت" للسرابيوم وقامت الحكومات الأوروبّيّة بتمويل أعمال بحثٍ مكثّفةٍ في المكان وحوله، وعلى مدار 15 عامًا قام "أوجست" بتأليف كتابٍ أسماه "سرابيوم ممفيس" باللغة الفرنسيّة والذي لم تتم ترجمته إلى أيّ لغةٍ أخرى حتّى الآن، مما زاد الأمر غموضًا وغرابةً.
السرابيوم من الداخل
تقع سراديب الموتى في " أبيس" تحت معبد أبيس ويحتوي السرابيوم على معرضٍ كبيرٍ وآخر صغيرٍ، يحتوي المعرض الكبير على ممرّاتٍ مستقيمةٍ لأكثر من 300 مترٍ ويحتوي على 26 تابوتًا حجريًّا منحوتًا من أقسى أنواع الأحجار في العالم، ويتطلب قطع وتشكيل تلك التوابيت استخدام رؤوس ماسيّةٍ وطاقةً كبيرةً لم تكن متوفّرةً في ذلك الزمن السحيق. يصل وزن التابوت الواحد إلى 70 طنًّا، ولكّل تابوتٍ غطاءٌ منفصلٌ يصل وزنه إلى 30 طنًّا، وهناك بعض الدلائل على أنّ الملك " أبسماتيك الأول" قد استخدم المعرض الكبير في دفن ثيران "أبيس" لكنّه لم يبْنِ المكان فقد كان موجودًا قبله بكثيرٍ. لذا فهناك احتمالٌ كبيرٌ أن لا يكون هذا هو سبب بناء السرابيوم، ولم يكن هذا هو السبب الحقيقيّ وراء ذلك اللغز القابع تحت أرض مصر.
أما المعرض الصغير فقد استخدم في عهد الملك "رمسيس الثاني"، ويحتوي على سبعة عشر غرفةً منحوتةً في الصخر وكان مليئاً بالكنوز التي تمّ نقلها إلى فرنسا وتمّ إغلاق المعرض الصغير منذ ذلك الحين ولم يسمح لأحد بزيارته حتى الآن.عندما دخل "أوجست" إلى السرابيوم وجد أنّ كلّ التوابيت مفتوحةٌ وفارغةٌ ماعدا تابوتًا واحدًا، فظنّ في أوّل الأمر أنّ تلك التوابيت تمّت سرقتها، ثم جلب "أوجست" العديد من المعدّات والعمّال لفتح التابوت المغلق لكنّه لم يستطع حتّى تحريك الغطاء من مكانه، فلجأ إلى حلٍّ نعتبره من أغبى الأعمال التي يمكن لأيّ عالم آثارٍ أن يفعلها، لقد قام بتفجير التابوت بالديناميت، وكانت المفاجأة .. لقد كان التابوت الأخير.. فارغًا أيضًا. وكان هذا من أعجب ما تمّ اكتشافه، فلماذا تمّ نحت تلك التوابيت العملاقة الشديدة الصلابة بهذه الدقّة الشديدة والهندسة الفائقة ثم يتركونها فارغةً هكذا؟ ولمذا أغلقوا التابوت فارغًا؟
كريستوفر دان ونظريّة الدقّة الهندسيّة
في الوقت الذي يتحدّث العالم عن الأهرامات والحضارة المصريةّ فوق الأرض، يخفي العالم المعلومات الخاصّة بالسرابيوم بالرغم من كون لغز السرابيوم أعظم من الحضارة المصريّة التي فوق الأرض، وقد اعتقد كثيرٌ من العلماء أن المصريّين القدماء قد امتلكوا تقنيّةً متطوّرةً مفقودةً لا نعلم عنها شيئًا مثل "كريستوفر دان" في كتابه "التكنولوجيا المفقودة في الحضارة المصريّة". اعتمد كريستوفر في كتابه على ما يسمّى بالدقّة الهندسيّة في الحضارة المصريّة من خلال حساب الأضلاع، ولكي يثبت وجود تلك التقنيّة المفقودة في السرابيوم قام بقياس الزاوية الداخليّة للتوابيت فتفاجأ بأنّ الزاوية الداخليّة قائمةٌ ومنضبطةٌ بدقّةٍ مذهلةٍ لدرجة أنها لا تسمح بمرور الضوء إذا تمّ إغلاق التابوت، وهو ما لا يمكن لأيّ إنسانٍ أن ينحته بأدواتٍ بدائيّةٍ، فهو أمرٌ مستحيلٌ، تلك التقنيّة المستخدمة في نحت توابيت السرابيوم لا يمكن تخيّل عظمها، والأمر العجيب هو أين ذهبت تلك التقنيّة؟
نظرية بطاريّات الطاقة
إذا رأينا تلك التوابيت الغامضة نلاحظ أنّ دقّة النحت من الداخل فقط وليست من الخارج، فالتوابيت متعرّجةٌ من الخارج ممّا يدلّ على أنّ الداخل هو الأهمّ وليس الخارج، وإذا علمنا أنّ كلّ تابوتٍ مكوّنٍ من قطعةٍ صخريّةٍ واحدةٍ ضخمةٍ وأنّ سمك الجدار كبيرٌ، فنستنتج بأنّ هناك احتمالٌ بأنّ تلك التوابيت قد صمّمت لتحمّل ضغطٍ عالٍ لسببٍ ما، فما الهدف من ذلك؟
يظنّ البعض أنّ تلك التوابيت كانت تستخدم كبطاريّاتٍ لتوليد الطاقة، فهي بحاجةٍ لتحمّل ضغطٍ كبيرٍ، لكنّ هذه النظريّة يبطلها بعض العلماء بسبب أنّ بعض التوابيت من الداخل كانت خشنةً وغير مستويةٍ ممّا يدلّ على أنّ صناعة تلك التوابيت قد توقفت فجأةً نتيجةً لشيءٍ ما حصل بصورةٍ مفاجئةٍ. إنّ توابيت السرابيوم من أكبر ألغاز مصر القديمة والتي لم يستطع أحد حتّى الآن أن يعطي تفسيراتٍ منطقيّةً لماهية السرابيوم أو حتى كيفيّة إدخال تلك التوابيت العملاقة من هذا الممرّ الضيّق.
نظرية الانتقال الآنيّ
اقترح بعض الباحثين أنّ تلك التوابيت كانت تستخدم كوسائل للتنقل بين الكواكب والنجوم، وأنها ليست من صنع البشر بل صنعها الجنّ للتنقّل والتواصل، وتدل غرابة الاستنتاجات التي اقترحها البعض على يأسهم من الوصول لتفسيرٍ منطقيٍّ ممّا دفعهم إلى بعض الاستنتاجات الغير منطقيّةٍ والتي لا تعتمد على أيّ مبدءٍ علميٍّ أو أثريٍّ.
نظرية كبسولات الشفاء
إذا ربطنا اسم المكان وعبادة المصريّين لأبيس الذي هو تجسيدٌ للإله "سيرابيس" سنجد أنّ هناك صلةً بين الشفاء وبين هذا المكان والإله الذي كان يعبد في تلك الأرض، لذا من الممكن أن تلك التوابيت كانت تستخدم بشكلٍ ما في الشفاء من بعض الأمراض عن طريق وضع المريض في ذلك التابوت وإغلاقه بإحكام لفترة ما ثم تعريضه لشيء ما يسبّب قتل البكتيريا أو الفيروسات المسبّبة للمرض. وهذا قد يفسّر سبب فراغ كلّ التوابيت حيث أنّها لم تكن مصنوعةً للدفن، بل للاستخدام المؤقّت.
وفي الختام، هل تعتقد أنّه سيأتي اليوم الذي يمكننا فيه أن نجد تفسيرًا منطقيًّا لوجود هذا اللغز تحت الأرض؟