قوس النصر كان ملفوفًا بالقماش
استغرق الفنانان كريستو وجين كلود عقودًا من الزمن لتحقيق أحد مشاريعهما الملحمية والعابرة.
في عام 1971، بدأ الثنائي تنفيذ خططهما لتغليف مبنى الرايخستاغ الألماني التاريخي بأكثر من مليون قدم مربع من القماش الفضي المتلألئ. ولم يتم الانتهاء من تغليف الرايخستاغ حتى عام 1995.
وتم تصميم The Gates،(البوابات) في سنترال بارك (الحديقة المركزية) لأول مرة في عام 1979، حيث تم الكشف أخيرًا عن ألواح الزعفران العلوية التي يبلغ طولها 23 ميلًا وارتفاعها 16 قدمًا فوق ممرات سنترال بارك في عام 2005.
توفيت جين كلود في عام 2009، وكانت زوجة كريستو وشريكته في الفن منذ البداية، فركّز على تحقيق المشاريع التي بدأاها معًا. وعندما لم يتحقق أيٌّ من ذلك بحلول عام 2014 وكان عيد ميلاده الثمانين يقترب، قال في عام 2016: "كان علي أن أفعل شيئًا بسرعة كبيرة لأنني لا أعرف كم من الوقت سأعيش". وفي هذين العامَين كان قد أنجز الـ floating piers (الأرصفة العائمة)، وهو مشروع صممه هو وجين كلود في السبعينيات للأرجنتين ومن ثم لليابان، وفي عام 2016 لم يكن قد تجاوز مرحلة المفهوم والرسم. وبمساعدة الأصدقاء القدامى، تم إنشاء الأرصفة العائمة بسرعة على شكل ممرات مائية مغطاة بالزعفران تربط جزيرة بالبر الرئيسي في منطقة البحيرة الإيطالية.
أحب كريستو أن يشير إلى أن الأعمال الفنية الضخمة التي قام بها هو وزوجته جين كلود - والتي شملت مؤقتًا الرايخستاغ والجسر التاسع في باريس، والخط الساحلي في أستراليا - هي حقيقية ومصممة بدقة مثل الطرق السريعة والجسور. لقد احتاجا إلى نفس النوع من الخبراء في البناء والقانون والتخطيط الهيكلي، لكنه كان يشعر بسعادة غامرة أكثر من أي شيء آخر لأنه أمضى ساعات لا نهاية لها في الموقع لتجربة الكيمياء التي حوّل بها العالَم اليوميَّ إلى فن. "هذا هو العالم الحقيقي"، قال لي ذات مرة: "هذا هو الشيء الحقيقي، الرطب الحقيقي، والرياح الحقيقية، والكيلومتر الحقيقي. تتطلب جميع مشاريعنا نوعًا من الاتصال الجسدي مع الأشياء الحقيقية."
تلك التجربة هي كل شيء. إنها تتويج لما وصفه كريستو وجين كلود بمرحلتَي أيّ مشروع. أولاً، تأتي مرحلة "البرمجيات" المتمثلة في المفهوم، والإقناع، والتفاوض للحصول على التصاريح الأساسية. وبالنسبة لكريستو وجين كلود، لم يكن البرنامج مجرد مقدمة للحدث النهائي؛ لقد كانت مادةً مثل الصباغ بالنسبة للرسام. إنها عمليةٌ تمّ توثيقُها في سلسلة من الأفلام الجذابة لمُنتِجَي الأفلام ألبرت وديفيد مايسيلز، والمخرج البلغاري أندريه م. باوفنوف، حيث سُجِّلَت الدراما العالية والمخاطر العالية والقلق والتشويق المثير واليأس والإصرار مُشكِّلةً ما يُميِّز إنتاجَ كريستو وجين كلود. ومن ثمّ -ثانياً- في مرحلة "المعدات" يتم الجمع بين خيوط البناء المتعددة التي تؤدي في تلك الأيام العابرة إلى الاستمتاع بالبراعة الفنية لكلّ شيء. وعلى الرغم من كل السنوات والأشهر الشاقة التي استغرقتها عملية صنعها، لا تدوم المهرجانات العامة أكثر من 16 يومًا، قبل أن يتم تفكيكها وبيع المواد وإعادة تدويرها. وتأتي السنوات الطويلة من التحضير و16 يومًا من المجد بثمن باهظ - 13 مليون دولار على الأقل لقوس النصر، المغلف - الذي كان كريستو وجين كلود يُموِّلانه ذاتيًا دائمًا من خلال بيع الرسم الذي كان كريستو يرسمه لكلّ مشروع.
تم تجميع مشروع كريستو الأخير، قوس النصر الملفوف، بالسرعة نفسها تقريبًا، والأمرُ الأكثرُ روعةً هو أن المشروع سينشأ بعد وفاته، وفقاً للخطط التي بدأت مع كريستو وستُكمَل من قبل ابن أخيه.
في عام 2018 وبمجرد أن أعلن كريستو عن رغبته في تغليف ذلك الرمز للحرية والقوة الفرنسية، استغرق الأمر اجتماعًا واحدًا رفيع المستوى بين الفنان والمسؤولين، وتم التوقيع على التصاريح اللازمة. يعتقد كريستو أن أحد الأسباب وراء اجتياز قوس النصر عملية الحصول على التصريح بهذه السرعة، هو أنه في خريف عام 2018، عندما ظهر الموضوع لأول مرة، كان متظاهرو "السترات الصفراء" في باريس يتظاهرون ضد ارتفاع الأسعار والعبء الضريبي غير المتوازن الذي تتحمله الطبقة المتوسطة، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحاجة إلى خلق بعض الأخبار الجيدة. لم يستغرق الأمر سوى اجتماع واحد بين كريستو والمسؤولين الفرنسيين، وتم تنفيذ المشروع.
أعطى كريستو في وصيته، الضوء الأخضر للمشروعَين اللذين كان قد أكمل بالفعل كلَّ رسمٍ وتصميمٍ متعلّقَين بهما وتفاصيلَ التنفيذ الدقيقة لهما. على الرغم من أن ابن أخيه، فلاديمير يافتشيف، الذي يشغل منصب مدير المشروع في باريس، وابن شقيق جين كلود، جوناثان هنري، في نيويورك، يقتربان من الانتهاء من مشروع قوس النصر المُغلَّف، إلا أن مشروعَ المصطبة -وهو مشروعٌ في مدينة أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة- لا يزال في مرحلة تصريح البرمجيات. تم تشييدُ المشروع الأوّل -قوس النصر المُغلَّف- من 410.000 برميل مكدس متعدد الألوان ممّا يشكل هرمًا يبلغ ارتفاعه 492 قدمًا، وقد وصف كريستو وجين كلود هذا بأنه من المحتمل أن يكون أكبر منحوتة في العالم.
احتفالاً بذلك، أغلقت مدينة باريس ساحة النجمة أمام حركة المرور خلال عطلات نهاية الأسبوع الثلاثة الموافقة لعرضه، مما أتاح المجال لملايين المشاة المتوقَّعين.
ولمدة 16 يوما، ظل القوس، الذي أمر به نابليون لتكريم الأبطال الفرنسيين والانتصارات الفرنسية، وهو المكان الذي سارت فيه جيوش هتلر الغازية ذات يوم، ملفوفا بمساحة 323000 قدم مربع (7.4 فدان) من قماش البولي بروبيلين الأزرق الفضي مع طيات منتفخة، تتحرك مع النسمات وتعكس ضوء الخريف. تم تثبيت الستارة في مكانها بحبل طوله 22960 قدمًا (4.3 ميلًا).
لم يتوقف كريستو أبدًا عن الحلم بأحلام كبيرة.
قال ذات مرة: "لا، في الحقيقة أنا متفائل بشكل عام". "أرى أن العالم مليء بالبؤس. أنا نفسي كنت لاجئاً. أعلم أنه أمر فظيع. لكنني أعلم أنني نجوت، وأنا متفائل للغاية لأنني ولدت هكذا، وأعتقد أن الأمور يمكن حلها وستكون مثيرة للاهتمام”.