الكشف عن سجلات أحمد بن فضلان المفقودة: لمحة رائعة عن الماضي
في عام 921، انطلق الرحالة العربي الشهير أحمد بن فضلان في رحلة رائعة من بغداد إلى أراضي فولغا بلغار البعيدة. هذه الحملة غير العادية، التي أمر بها الخليفة العباسي، قادتْه إلى أراضي الأتراك والخزر والروس والصقالبة وقبائل الفايكنج الغامضة، تاركة وراءها وصفًا آسرًا لعاداتهم وطقوسهم وأسلوب حياتهم.
فاتحة الرسالة
التمس حاكم الصقالبة، ألمش بن شلكي (المُلقَّب: "يلطوار") من الخليفة العباسي أن يُرْسِلَ إليه من يُعلِّمه وشعبه شريعة الإسلام ويُفقِّهُه في الدين، ويبني لهم مسجدًا وحصنًا يحتَمُون فيه من أعدائهم الخزر، وهي طلباتٌ جاء بها سفير الصقالبة: "عبد الله بن باشتو". ووافق الخليفة المقتدر على إنفاذ سفارةٍ إلى بلاد الصقالبة لإجابة طلبات الصقالبة هذه، وضمَّت السفارة "ابن فضلان" ومعه ثلاثة أصحابٍ وكَّلهم الخليفة بمرافقته، وكُلِّفَ "ابن فضلان" بقراءة كتاب الخليفة وتسليم الهدايا والإشراف على الفقهاء والمُعلِّمين، فانطلقت السفارة في شهر صفر سنة 309 هـ، وهو في صيف سنة 921م.
الفرس
يَقْتَصِرُ عبور "ابن فضلان" لبلاد فارس على سرد مُقْتَضَب للمدن التي يعبرها، وتعديد الاستراحات الخاطفة التي أمضاها في محطَّات مثل همذان والري. ولعل السبب في هذا الوصف والعبور السَّريعَيْن هو قُرْب "ابن فضلان" من البلاد الفارسية ومعرفته بها، على عكس البلدان التي رآها فيما بعد، أو قد يكون لدافعٍ من دوافع الرحلة أجبره وأصحابه على عبور هذه البلاد بسُرْعة أكبر من سواها. وقد سار طريق "ابن فضلان" عبر مدن فارسية كبرى منها نيسابور ومرو، ولو أنه لا يُعْطِي لها أي أوصاف في رسالته، ثم عبر مفازةً (أي: صحراء) وصولاً إلى مدينة آمُلْ، ومنها عبر نهر جيحون وصولاً إلى بخارى.
الأتراك
كانت بخارى في وقت وصول بعثة "ابن فضلان" إليها عاصمةً للدولة السامانية، وقد استقبلهم فيها الوزير الشهير الجيهاني (صاحب كتابٍ جغرافي معروفٍ رُغْم ضياع مخطوطاته، وهو: «المسالك في معرفة الممالك»)، واصطحبهم إلى بلاط نصر بن أحمد، وهو الأمير الشاب للدولة آنذاك. وقد قرأت السفارة على الأمير الساماني كتاب الخليفة المقتدر، الذي يَطْلُبُ فيه من السامانيِّين تسليم 4,000 دينار ذهبية من خراج ضيعة "أرثخشمثين" للسفارة، ليحملوها معهم إلى ملك الصقالبة. لكن المُكلَّف باستلام النقود (وهو: "أحمد بن موسى الخوارزمي") لم يَصَاحِبْ سفارة "ابن فضلان" حينما انطلقت من بغداد، وإنما سار في إثرهم بعد خمسة أيام، وقد دَبَّر الوزير العباسي ابن الفرات أو أحد أتباعه (وهو صاحب خراج ضيعة "أرثخشمثين"،حسب الرسالة) لاعتقال "أحمد بن موسى" في مدينة مرو والزجِّ به في السجن، ولذلك فإنه لم يلحق بسائر البعثة قط.
البلغار أو الصقالبة
وصلت سفارة "ابن فضلان" إلى مدينة بلغار في فصل الربيع، في منتصف شهر محرم تقريبًا، حيث استقبلها ملك الصقالبة "ألمش بن شيلكي" في مخيّمه قرب مدينة بلغار الحالية، ومنحهم استراحةً لمدة أربعة أيام قبل أن يستدعيهم للقائه، وجَمَعَ حاشيته لينصتوا إلى قراءة كتاب الخليفة العباسي. وحين قراءة كتاب المقتدر أصرَّ "ابن فضلان" على أن يَقِفَ الجميع أثناء قراءة الكتاب، بمن فيهم حاكم الصقالبة ذا الجسم الممتلئ، في علامةٍ على تفوُّق وأهمية الخلافة العباسية التي يُقْرَأ كتابها.
الروسية أو الفايكنغ
التقى "ابن فضلان" في المُخيَّم الواقع مكان مدينة "بلغار" الحالية مجموعةً ممَّن يُسمِّيهم: "الروسية"، ويُعْتَقَدُ أن هؤلاء كانوا مجموعةً من الفايكنغ، وأنهم ربما كانوا عائدين من رحلة تجارية في كييف. يسترسل "ابن فضلان" في وصف عادات ومظاهر وملابس وتصرّفات هؤلاء القَوْم، متضمِّنةً وصفًا طويلًا لجنازة لرجلٍ من كبار قومهم، وهي جنازةٌ أقيمت على طريقة الدَّفْن بالسُّفُن، أي بإحراق جثمان الميّت داخل سفينة، وهو طقسٌ اشتُهِرَ به الفايكنغ.
الخزر
وصفت نهاية رسالة "ابن فضلان" بمخطوطة مشهد، في سطورٍ منقطعة، وصفًا مقتضبًا لعاصمة دولة الخزر في أتيل، الواقعة على ضفاف نهر الفولغا آنذاك.وقد قال عنها أنها "مدينة عظيمة"، وأن لها جانبَين،أحدهما يسكنه المسلمون، والآخر يسكنه الملك وحاشيته. ويُشكِّك كثيرٌ من الباحثين بأن "ابن فضلان" وصل في رحلته -فعلًا- إلى بلاد الخزر، وبأن هذا النص يَعودُ إليه، وتبقى -لذلك- رحلة عودة "ابن فضلان" إلى الدولة العباسية مجهولة حتى الآن.
ويُعتقد أن ابن فضلان عاد إلى بغداد، رغم أن كل الرسائل التي اكتشفناها تصف رحلته من بغداد إلى بلاد الصقالبة فقط. إن الرواية التفصيلية لرحلات ابن فضلان لا تثري فهمنا للتاريخ فحسب، بل تعمل أيضًا بمثابة تذكير بترابط الحضارات عبر الزمان والمكان. وبينما نتأمل في إرث ابن فضلان، نتذكر أهمية الحوار بين الثقافات وقيمة الحفاظ على تاريخنا المتنوع ومشاركته.