من المجد الى الأطلال : حكاية بابل التي لا تُنسى"

ADVERTISEMENT

في قلب العالم العربي، تقع مدن تحمل عبق التاريخ وجمال الحاضر وأحلام المستقبل. مدن لا تُنسى، ليس فقط لأنها شهدت حضارات عظيمة، بل لأنها ما زالت تنبض بالحياة.

عرض النقاط الرئيسية

  • تأسست مدينة بابل على يد سرجون الأكدي، لكنها بلغت ذروة قوتها السياسية والعسكرية في عهد الملك حمورابي
  • استفادت بابل من موقعها الجغرافي المميز على نهر الفرات، مما جعلها مركزًا زراعيًا وتجاريًا مهمًا يربط شمال وجنوب بلاد الرافدين
  • لعب التعليم دورًا أساسيًا في ازدهار الحضارة البابلية، حيث كانت المدارس تُخرج كتبة متخصصين في مجالات متعددة لخدمة الدولة
  • ADVERTISEMENT
  • تميز البناء الاجتماعي البابلي بالتدرج الطبقي، وكان الملك على رأس السلطة السياسية والدينية يليه الكهنة والنبلاء والحرفيون
  • برزت بابل كمدينة صناعية وتجاربة مزدهرة، وعُرفت بصناعة النسيج والفخار والنقش على الحجر، إلى جانب معمارها الفريد
  • تُعد الحدائق المعلقة من أبرز معالم بابل، على الرغم من عدم وجود دليل أثري قاطع يثبت وجودها الحقيقي
  • انتهى مجد بابل تدريجيًا بعد غزوها من قِبل الفرس بقيادة قورش الكبير، مما أدى إلى تدهورها الاقتصادي والثقافي وتحولها إلى مدينة مهجورة.

نتحدث  هنا عن مدينة بابل العراقية، الواقعة في جنوب وسط العراق على ضفاف نهر الفرات. وعند ذكر بابل، يتبادر إلى الذهن الحضارة والقوة والإبداع. يعود تأسيس مدينة بابل إلى الملك سرجون الأكدي، على الرغم من أن حضارته سبقت حضارة بابل بعدة قرون. فقد أسس سرجون أول إمبراطورية موحدة في بلاد الرافدين، ووضع نموذجًا للدولة المركزية، وهو النموذج الذي تبنته بابل لاحقًا. كما أسس الإمبراطورية الأكدية وقام ببناء بابل كمدينة صغيرة ضمن توسعاته في جنوب العراق، لكنها لم تبرز كقوة عسكرية وسياسية إلا في عهد الملك حمورابي، أعظم ملوك السلالة البابلية الأولى.

أسباب إنشاء مدينة بابل :

ADVERTISEMENT

أولًا، الموقع الجغرافي المميز، حيث تقع على نهر الفرات، مما وفر لها المياه للزراعة وسهولة النقل والتجارة، فكانت نقطة وصل مهمة بين شمال وجنوب بلاد ما بين النهرين.

ثاني الأسباب هو الرغبة في السيطرة والتوسع؛ فبابل كانت في بدايتها مدينة صغيرة، لكن مع تولي الملوك الأقوياء مثل حمورابي، تم توسيعها لتصبح عاصمة للإمبراطورية. وكانت لها مكانة دينية عظيمة أيضًا، حيث كان يوجد فيها معبد الإله مردوخ، وهو الإله الرئيسي في الديانة البابلية. إضافة إلى ذلك، كانت بابل رمزًا للعظمة والحضارة، حيث بنوا فيها المعابد والأبراج مثل برج بابل. وكان للتعليم في مدينة بابل دور كبير في تقدمها الحضاري؛ فالمدارس كانت تُعرف باسم "بيت الألواح" أو باللغة الأكدية "إيدوبّا". وكان طلاب المدارس من الطبقة العليا أو المتوسطة، ويُطلق على المعلمين لقب "أوميا" أي الشخص الذي يقوم بتعليم الكتابة والعلوم المختلفة. وكانوا يقومون بتدريس علوم متنوعة مثل الفلك والتقويم والرياضيات والقانون واللغة، حيث عرفوا اللغتين السومرية والأكدية. وكان الهدف من التعليم تخريج كتبة لخدمة الدولة في المجالات المختلفة مثل التجارة والقضاء والجيش.

ADVERTISEMENT

اتسم الهيكل الاجتماعي بتنظيم دقيق. قامت الحياة الاجتماعية على التدرج الطبقي، فكان لكل فئة دور محدد في المجتمع. كان الملك رأس السلطة السياسية والدينية، ويُعتبر ممثلًا للآلهة. تليه طبقة الكهنة، الذين يقومون بإدارة المعابد والطقوس الدينية. ثم الطبقة العليا، وتشمل النبلاء والتجار الأثرياء وكبار المسؤولين. وتضم الطبقة المتوسطة الحرفيين والزراع الأحرار والكتبة. وأخيرًا، يأتي العبيد الذين كانوا يُستخدمون في الزراعة والخدمة.

صناعات أشتهرت بها مدينة بابل :

اشتهرت بابل بالعديد من الصناعات كصناعة النسيج والفخار والمعادن والنقش على الحجر. كما تمتعت بمركز تجاري مزدهر، واحتضنت حضارة بابل كنوزًا عظيمة جعلتها واحدة من أغنى مدن العالم القديم. لم تقتصر هذه الكنوز على الذهب والمجوهرات، بل شملت معالم معمارية وإنجازات علمية وآثارًا دينية. ومن أبرز هذه الكنوز الحدائق المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، والتي وُصفت قديمًا بأنها معجزة هندسية وجمالية. بُنيت الحدائق في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني لزوجته أميتيس، وسُميت بالمعلقة لأنها بُنيت على شكل مدرجات حجرية متصاعدة، تتدلى منها الأغصان والأزهار إلى الأسفل، مما يعطي انطباعًا بأنها معلقة. تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد دليل أثري قاطع في بابل يثبت وجود هذه الحدائق، إذ أن معظم المعلومات عنها وردت من مؤرخين إغريق. كما احتضنت بابل أهم معبد مخصص للإله مردوخ.

ADVERTISEMENT

ولن ننسى برج بابل، وهو بناء أسطوري يُعدّ من أشهر المعالم التي ذُكرت في التاريخ. كان لديهم الكثير من التماثيل والحيوانات الأسطورية المصنوعة من الذهب. ويوجد عند مدخل المدينة بوابة ضخمة مزينة بالتماثيل البارزة والطوب المزجج الأزرق، الذي كان يصنع من الطين المحروق ويغطى بطبقة من المينا الزجاجية ثم يخبز في الأفران ليصبح صلبًا ولامعًا. وتُعد هذه البوابة من أعظم الآثار البابلية. ومن كنوز بابل أيضًا آلاف الألواح الطينية التي تحتوي على علوم الفلك والطب والرياضيات والقانون، وشريعة حمورابي نفسها كنز قانوني وتاريخي.

نهاية المجد البابلي :

بلغت مدينة بابل أوج عزّها ومجدها في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني الذي حكم في الفترة من 605 إلى 562 قبل الميلاد. كان نبوخذ نصر من أقوى ملوك بابل وقائدًا عسكريًا بارزًا، حيث قام بتوسيع الإمبراطورية لتشمل معظم بلاد الشام وفلسطين. شهدت بابل في عهده نهضة عمرانية وثقافية وعلمية كبيرة، وكانت من أعظم مدن العالم في ذلك الوقت. ولكن، كما هو حال معظم الحضارات، لم يدم مجدها إلى الأبد، فتعاقبت عليها الغزوات التي أضعفتها تدريجيًا، وبدأت ملامح نهايتها تظهر بعد دخولها تحت سيطرة الفرس. دخلها الملك الفارسي قورش الكبير دون قتال وضمها إلى الإمبراطورية الفارسية، وبذلك انتهى الحكم البابلي. في ظل الحكم الفارسي، لم تعد بابل العاصمة، بل أصبحت مدينة ثانوية وقل الاهتمام بها. قامت عدة ثورات ضد الحكم الفارسي، أشهرها في عهد زركسيس الذي قام بتدمير معابد بابل، مما أدى إلى تراجع دورها الديني والثقافي. تحولت الطرق التجارية إلى مناطق أخرى، مما تسبب في انهيار اقتصاد بابل. وبحلول القرن الثاني الميلادي، كانت بابل مهجورة بالكامل. فنهاية بابل لم تكن مفاجئة، بل جاءت تدريجيًا نتيجة الغزو الفارسي والإهمال، وبذلك تكون حضارة بابل قد انتهت بالكامل.

ADVERTISEMENT

تحفل كتب التاريخ بالعديد من المدن التي تركت أثرًا لا يُمحى، بل يظل خالدًا في الذاكرة والوجدان. إنها مدن يرفض العقل تصديق نهايتها، فقد جمعت بين العظمة السياسية والنهضة العلمية والجمال المعماري. لم تكن بابل مجرد مدينة، بل كانت أسطورة باقية تذكرنا دائمًا بما يمكن أن يحققه الإنسان عندما يصنع المجد بعقله وطموحه.

أكثر المقالات

toTop