استكشف النواميس: أعجوبة ما قبل التاريخ في قلب صحراء سيناء

ADVERTISEMENT

في قلب صحراء سيناء، وعلى مقربة من دير سانت كاترين، تقع واحدة من أكثر المواقع الأثرية غموضًا في مصر والعالم العربي، تُعرف باسم "النواميس". هذه الهياكل الحجرية الدائرية القديمة، التي يرجع تاريخها إلى أكثر من 5000 عام، تقف شامخة بصمت في وسط الصحراء، شاهدة على حضارات سابقة ما زال العلماء في حيرة من أمرها.

النواميس ليست فقط وجهة لعشاق التاريخ والآثار، بل هي رحلة إلى عمق الزمان، حيث تمتزج الطبيعة بالصمت، والحجارة بالروح، لتخلق تجربة روحية وتاريخية لا تُنسى.

بواسطة نيكي سومرسيت - المصدر : ويكيبيديا

ما هي النواميس؟ ولماذا تُعدّ فريدة من نوعها؟

النواميس هي مجموعة من الهياكل الحجرية القديمة التي تتميز بشكلها الدائري وسقوفها المنخفضة. تم تشييد هذه المباني باستخدام الحجارة فقط، دون أي مواد لاصقة أو ملاط، حيث اعتمد البناؤون على تكديس الأحجار فوق بعضها بطريقة دقيقة ومتوازنة تضمن ثبات البناء على مر العصور. تتفاوت أقطار النواميس ما بين مترين إلى ستة أمتار، وفي الغالب تحتوي على فتحة واحدة صغيرة منخفضة تمثل المدخل، ما يمنحها مظهرًا مهيبًا وبسيطًا في الوقت نفسه. على الرغم من قِدمها الذي يقدره الباحثون بأكثر من 5000 عام، فإن العديد من هذه الهياكل لا يزال قائمًا حتى اليوم، ويُعد ذلك شهادة على براعة من أنشأها. اللافت في تصميم النواميس هو هندستها البسيطة والمتقنة التي سمحت لها بالبقاء صامدة رغم العوامل المناخية القاسية في الصحراء. هذه الأبنية ليست مجرد أنقاض أثرية، بل هي شواهد حية على ماضٍ غامض يستحق المزيد من البحث والتأمل.

ADVERTISEMENT

سبب تسمية النواميس بهذا الاسم

سبب تسمية النواميس بهذا الاسم يعود إلى الغموض الذي يحيط بهذه الهياكل الحجرية، وإلى المعاني اللغوية القديمة المرتبطة بالكلمة. في اللغة العربية، يُشتق مصطلح "ناموس" من الجذر "ن و م س" الذي يحمل معاني متعددة، من بينها القانونأو النظام الطبيعي الخفي، كما استخدم في بعض السياقات القديمة للدلالة على السر أو الوحي أو القاعدة الكونية. ولهذا، يُعتقد أن الاسم ارتبط بهذه البُنى الغامضة لأن وظيفتها الأصلية غير مفهومة بدقة، وكأنها تتبع "ناموسًا" مجهولًا ،أي قانونًا أو غاية غير مكشوفة.

كما أن بعض الباحثين يشيرون إلى أن البدو أطلقوا عليها هذا الاسم لأنهم لاحظوا سكونها وغموضها، وربطوها بمفاهيم الموت والدفن، حيث اعتُقد لفترة طويلة أنها مقابر تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. وهكذا أصبح الاسم يحمل طابعًا من الرهبة والاحترام، يعكس قدم هذه الهياكل وغموضها الدفين، حتى أصبحت تُعرف في الأدبيات الأثرية باسم "النواميس".

ADVERTISEMENT

أعمدة غامضة من الماضي البعيد

ما يجعل النواميس فريدة ولا مثيل لها هو الغموض العميق الذي يحيط بها من كل جانب. فعلى عكس معظم الآثار القديمة، لا تحتوي هذه الهياكل على أي نقوش أو رموز أو رسومات تدل على هوية بناتها أو استخداماتها. لا توجد أدوات أو قطع فخارية تُعطي أدلة واضحة، مما جعل النواميس تُشكّل لغزًا أثريًا محيرًا للعلماء والمستكشفين. نظريات استخدام هذه الهياكل متعددة، فهناك من يعتقد أنها كانت مدافن لأفراد بالغين أو أطفال، استُخدمت في طقوس جنائزية. بينما يرى آخرون أنها ربما كانت مواقع للعبادة أو لحماية الموتى من الظروف الصحراوية. وتُشير بعض التفسيرات الفلكية إلى أن مواقعها واتجاه فتحاتها قد تكون مرتبطة بدورات شمسية أو قمرية معينة، مما يمنحها بُعدًا روحيًا. هذا الغموض الفريد يعزز من جاذبية النواميس كوجهة سياحية وأثرية، حيث يشعر الزائر أنه في حضرة حضارة منسية لم تُكشف أسرارها بعد، وكأن الأحجار تهمس بأسرار من عصور سحيقة.

ADVERTISEMENT
بواسطة إف آي جي - المصدر: ويكيبيديا

الموقع الجغرافي: رحلة في عمق سيناء

تقع النواميس في منطقة نائية وجذابة من صحراء جنوب سيناء، وتحديدًا على الطريق الذي يربط بين مدينتي نويبع وسانت كاترين. هذا الموقع الاستراتيجي يجعل زيارتها ممكنة عبر جولات منظمة تنطلق من سانت كاترين أو من شرم الشيخ في رحلات يومية بسيارات الدفع الرباعي. الطريق المؤدي إلى النواميس يكشف عن جمال خفي للطبيعة الصحراوية، حيث تمتد الجبال الصخرية بألوانها المتغيرة من الأحمر إلى الرمادي، وتتخللها أودية واسعة تتناغم مع كثبان رملية ذهبية ناعمة. الهواء الجاف النقي، والهدوء الذي يلف المكان، يعززان من روعة الرحلة، التي تتحول من مجرد تنقل إلى تجربة حقيقية في قلب البرية. الوصول إلى النواميس يمنح الزائرين شعورًا بالعزلة والتأمل، فهي منطقة لم تمسّها يد الحداثة بعد، وتحتفظ بجمالها البدائي الصافي. لهذا السبب، تُعد الرحلة إلى النواميس مناسبة لمحبي الطبيعة، ولمن يبحث عن مغامرة تجمع بين الاستكشاف والسكينة في مكان يشبه الأسطورة أكثر من الواقع.

ADVERTISEMENT

من بنى هذه النواميس؟ نظريات وبحوث علمية

رغم قِدمها، لم تُعرف بعد الهوية الدقيقة للذين شيّدوا النواميس. بعض علماء الآثار يرجّح أن هذه الهياكل تعود إلى العصر البرونزي المبكر، أي حوالي 3000 قبل الميلاد. وتشير الحفريات المحدودة التي أُجريت في بعض النواميس إلى وجود بقايا عظام بشرية، ما يدعم فرضية استخدامها كمقابر.

لكن هناك من يرى أن التماثل المعماري والدقة في البناء يدلّان على هدف أكبر، ربما طقوس دينية أو فلكية، خاصة أن أبواب النواميس غالبًا ما تواجه الغرب ،وهو اتجاه له دلالات رمزية في كثير من الثقافات القديمة، مرتبطة بالموت أو نهاية اليوم.

التصميم المعماري: عبقرية الصحراء

بُنيت النواميس بطريقة تشبه القباب المنخفضة، وهي مصممة لتتحمل حرارة الصيف وبرودة الشتاء، كما أنها تقاوم العواصف الرملية التي تشتهر بها منطقة سيناء. لم يستخدم البنّاؤون أي نوع من الطين أو الأسمنت، بل اعتمدوا فقط على تكديس الحجارة الكبيرة والصغيرة بطريقة متوازنة تجعل البناء صامدًا حتى اليوم.

ADVERTISEMENT

ورغم بساطة المواد، فإن النتيجة معمارية مدهشة، تعكس براعة الإنسان القديم في التعامل مع بيئته بأدوات محدودة وإبداع لامحدود.

بواسطة سارافيدا - المصدر : ويكيبيديا

النواميس في عيون الرحالة والمستكشفين

في القرنين الماضيين، جذبت النواميس انتباه الرحالة والمستشرقين. العديد من البعثات الأوروبية زارت الموقع خلال القرن التاسع عشر، وسجلت وصفًا دقيقًا لهذه الهياكل، لكنها تركت خلفها المزيد من الأسئلة. بعض هؤلاء المستكشفين اعتقدوا أنها أضرحة نبطية، وآخرون قالوا إنها مستوطنات بدوية قديمة، لكن التحليلات الحديثة بالاعتماد على الكربون المشع أثبتت أنها أقدم بكثير من تلك الفترات.

اليوم، يستمر تدفّق السياح والباحثين إلى الموقع، يحمل كل منهم فضولًا مختلفًا: البعض يبحث عن الصور النادرة، والبعض الآخر عن شعور التواصل مع الماضي البعيد.

ADVERTISEMENT

تجربة الزائر: بين التاريخ والطبيعة

زيارة النواميس ليست مجرّد رحلة أثرية، بل تجربة حسية وروحية. عندما تقف وسط هذه الدوائر الحجرية وتحيط بك الجبال من كل جانب، تشعر بأنك دخلت عالمًا خارج الزمن. الصمت التام، الهواء الجاف النقي، وغياب أي مظاهر للحداثة يعززون هذا الشعور.

الزائرون عادة ما يتوقفون للتأمل أو لالتقاط الصور أو حتى للجلوس في ظلّ إحدى النواميس وتخيل كيف كانت الحياة قبل آلاف السنين في هذا المكان القاحل. وتُعد النواميس مكانًا مثاليًا لهواة التصوير الصحراوي، خصوصًا عند الغروب عندما تلقي الشمس أشعتها الذهبية على الحجارة العتيقة.

دور البدو في حماية الموقع

يساهم البدو المحليون من قبائل الجبلية والمزينة في حماية موقع النواميس، ويعمل بعضهم كمرشدين سياحيين غير رسميين للزائرين. وهم على دراية بتفاصيل المنطقة ومساراتها، ويشاركون السياح في القصص والأساطير المرتبطة بهذه الهياكل الغامضة.

ADVERTISEMENT

تعاون الحكومة المصرية وبعض المنظمات البيئية والسياحية مع البدو أسهم في الحفاظ على الموقع من العبث أو التنقيب غير القانوني، مع تعزيز السياحة البيئية المستدامة.

تحديات المحافظة على النواميس

رغم شهرتها المتزايدة، إلا أن النواميس لا تزال بحاجة إلى مزيد من الاهتمام الرسمي من حيث التوثيق والحماية. عدم وجود لافتات توجيهية أو وسائل تفسيرية يجعل فهم الموقع صعبًا على الزوار غير المتخصصين.

هناك أيضًا خطر من السياحة العشوائية، حيث يمكن أن يؤدي تزايد أعداد الزائرين دون تنظيم إلى تآكل الحجارة أو رمي النفايات في المكان. لذلك، من الضروري إدراج النواميس ضمن خطط وزارة السياحة والآثار كواحدة من الوجهات الثقافية ذات الأولوية.

بواسطة تارا شتايمر هيربت - المصدر: ويكيبيديا

النواميس كجزء من هوية سيناء التراثية

تُعد النواميس شاهدًا حيًا على حضارات ما قبل التاريخ في سيناء، وتمثل بُعدًا ثقافيًا وإنسانيًا فريدًا لا يمكن إغفاله. إن إدراج هذا الموقع في الحملات الترويجية السياحية، وربما تسجيله كموقع تراث عالمي في المستقبل، سيعزز من قيمة المنطقة بالكامل ويعيد الاعتبار لتاريخ شبه جزيرة سيناء الغني.

ADVERTISEMENT

خاتمة: حيث تلتقي الأسطورة بالعلم

النواميس هي أكثر من مجرد أكوام من الحجارة. إنها دعوة لطرح الأسئلة، للبحث، للتأمل، وللتواصل مع الزمن السحيق. إنها تذكير بأن الصحراء ليست خالية، بل مليئة بالقصص والرموز والإرث الذي لا يزال بانتظار من يفكّ شيفراته.

إذا كنت تبحث عن تجربة سفر غير تقليدية، بعيدة عن الضجيج، مليئة بالإلهام والغموض، فإن زيارة النواميس في صحراء سيناء ستكون من أكثر اللحظات التي ستبقى عالقة في ذاكرتك.

أكثر المقالات

toTop