تل حرمل وحضارة مملكة أشنونا: كنز حضاري في قلب بغداد

ADVERTISEMENT

يقع تل حرمل في منطقة بغداد الجديدة، وهو أحد أبرز المواقع الأثرية في العاصمة العراقية. يعرف اليوم باسم "حرمل"، لكن اسمه القديم كان "شادوبوم"، وكان مركزًا إداريًا هامًا تابعًا لمملكة أشنونا التي كانت عاصمتها "تل أسمر" في محافظة ديالى. يقدم هذا الموقع لمحة نادرة عن حضارة ازدهرت قبل نحو 3800 سنة، وقد لعب دورًا بارزًا في الجوانب الإدارية والعلمية خلال العهد البابلي القديم. المقالة التالية تستعرض تفاصيل هذا الموقع الحضاري الفريد، وتسلط الضوء على دوره التاريخي والعلمي.

تصوير أسامة شكير محمد أمين - المصدر: ويكيبيديا

الموقع الجغرافي والتاريخي لتل حرمل

تل حرمل يقع في الضواحي الشرقية من بغداد، وتحديدًا في منطقة بغداد الجديدة. تحيط به اليوم مناطق سكنية حديثة، لكن هذا التل الصغير يخبئ بين طياته أسرارًا تعود إلى آلاف السنين. يعد من المواقع القليلة داخل العاصمة العراقية التي ما تزال تحتفظ بأطلال تاريخية واضحة تعود إلى فترات متعددة من العصور القديمة. وتشير الأبحاث الأثرية إلى أن الاستيطان في تل حرمل بدأ منذ العهد الأكدي وسلالة أور الثالثة، إلا أن أهمية الموقع تعاظمت خلال منتصف العصر البابلي القديم.

ADVERTISEMENT

وقد تم تحديد اسم المدينة القديمة المرتبطة بهذا التل بـ "شادوبوم"، وهي مدينة إدارية تابعة لمملكة أشنونا. هذه المملكة السومرية-الأمورية سيطرت على أجزاء واسعة من العراق القديم، وامتدت نفوذها حتى نهر دجلة. موقع تل حرمل يؤكد على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، إذ إنه قريب من طرق تجارية هامة، ما جعله مركزًا حيويًا لنقل البضائع والمراسلات.

العمارة والتخطيط العمراني في تل حرمل

عند دخول الموقع، يمكن مشاهدة سور حديث يحيط بالتل، وعند تجاوزه تظهر مبانٍ أثرية متعددة ضمن محيط مستطيل الشكل غير منتظم تبلغ أطوال أضلاعه بين 147 مترًا و98 مترًا. في الجهة الشمالية الشرقية يوجد مدخل رئيسي عريض على جانبيه برجان كبيران، مما يدل على التنظيم المعماري المتقدم والوظيفة الدفاعية للموقع.

أبرز المعالم الأثرية المكتشفة هو المعبد الرئيسي الذي تبلغ أبعاده 28×18 مترًا. المعبد يتميز بتصميمه البسيط والعملي، ويُعتقد أنه كان مركزًا دينيًا هامًا في المدينة. إلى جانبه، تم اكتشاف معبدين صغيرين تم صيانتهما وتسقيفهما للحفاظ على تفاصيلهما المعمارية. هذا التنوع في المباني يعكس التعدد الوظيفي للمدينة، إذ كانت تؤدي دورًا دينيًا وإداريًا وتعليميًا في الوقت ذاته.

ADVERTISEMENT

إن تصميم المدينة يعكس التخطيط الحضري المتقدم في ذلك العصر، إذ تم مراعاة توزيع المباني وفق نظام محكم يضمن سهولة الحركة والتنظيم الداخلي. وتُظهر الحفريات أن المدينة كانت تحتوي على شبكة صرف صحي بدائية ومناطق سكنية متفرقة.

تل حرمل كمركز علمي

إحدى الجوانب المدهشة في تل حرمل هي وظيفته كمركز علمي فريد في العهد البابلي القديم. فقد عُثر فيه على مجموعة من الرقم الطينية التي احتوت على معلومات رياضية وهندسية مذهلة. من أبرز هذه المكتشفات مسائل رياضية تتعلق بتشابه المثلثات قائمة الزاوية، وهي مفاهيم تُنسب عادةً إلى إقليدس، الذي عاش بعد هذه الفترة بسبعة عشر قرنًا.

كما وُجدت جداول مطولة للضرب، ورفع الأعداد للقوى المختلفة، واستخراج الجذور، ومعكوسات الأعداد، وهي عمليات تمثل بدايات ما نعرفه اليوم بالرياضيات المتقدمة واللوغاريتمات. وتُظهر هذه الوثائق أن سكان المدينة كانوا يتمتعون بمستوى عالٍ من المعرفة العلمية، مما يدل على وجود نظام تعليمي متقدم.

ADVERTISEMENT

الرقم الطينية التي وُجدت لم تقتصر على الرياضيات فحسب، بل تضمنت معاجم لغوية وأدبية، ونصوصًا قانونية وإدارية، ما يعكس تعدد اهتمامات سكان تل حرمل العلمية والثقافية.

بواسطة: أسامة شكير محمد أمين - المصدر: ويكيبيديا

مملكة أشنونا وعلاقتها بتل حرمل

مملكة أشنونا، التي اتخذت من تل أسمر في ديالى عاصمة لها، كانت واحدة من الممالك المزدهرة في العراق القديم خلال العصر البابلي القديم. وقد ضمت إلى أراضيها عددًا من المراكز الإدارية، من بينها مدينة شادوبوم (تل حرمل)، التي شكلت قاعدة مهمة لفرض السيطرة على المناطق المحيطة.

كانت أشنونا دولة منظمة ذات نظام قانوني متقدم، وقد تم اكتشاف قوانين أشنونا التي سبقت قوانين حمورابي بزمن، وتدل على تطور مفاهيم العدالة في تلك الفترة. هذه القوانين تناولت مسائل تتعلق بالتجارة والزراعة والعقوبات، مما يعكس حياة مدنية نشطة.

ADVERTISEMENT

تل حرمل، بوصفه مركزًا إداريًا، كان يربط العاصمة تل أسمر بمناطق دجلة والفرات، ولعب دورًا كبيرًا في تسهيل عمليات جمع الضرائب وتنظيم التجارة وتبادل المعلومات. وقد ساعدت البنية التحتية في تل حرمل، من طرق ومخازن وساحات، في أداء هذا الدور بكفاءة.

نبذة عن مدينة تل أسمر عاصمة أشنونا

تل أسمر هو الموقع الأثري الذي يمثل عاصمة مملكة أشنونا القديمة، ويقع في محافظة ديالى شرق بغداد. تعود بدايات الاستيطان فيه إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، وقد استمر كمركز حضاري هام حتى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. تشتهر تل أسمر بالاكتشافات المهمة التي تعكس نمط الحياة اليومية والأنظمة الإدارية والقانونية المتقدمة لتلك الحقبة.

المدينة كانت محاطة بأسوار سميكة، وتضمنت معابد ضخمة وقصورًا إدارية ومخازن للحبوب. من أبرز ما تم اكتشافه فيها تماثيل المصلين الشهيرة التي تعود إلى معبد الإله أبو، وهي اليوم معروضة في متاحف عالمية كالمتحف العراقي ومتحف الشرق القديم في شيكاغو. وقد تم الكشف عن وثائق قانونية وإدارية تؤكد أهمية المدينة كمركز حكم وتجاري، وتربطها صلات وثيقة بمدن وادي الرافدين الأخرى.

ADVERTISEMENT
بواسطة : إنشوشيناك - المصدر: ويكيبيديا

من بنى تل أسمر؟

تشير الأبحاث الأثرية إلى أن تل أسمر قد بني وتطور على يد سكان ساميين من أصول أكدية وأمورية، وقد تعاقبت عليه سلالات محلية وحكام تابعون لإمبراطوريات أكبر مثل الأكديين وسلالة أور الثالثة. إلا أن أوج ازدهاره كان تحت حكم مملكة أشنونا المستقلة، التي أسسها حكام محليون في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.

هؤلاء الحكام قاموا بتطوير المدينة من خلال بناء المعابد الكبرى وتشييد القصور الإدارية وإصدار قوانين متقدمة، مثل قوانين أشنونا التي اكتُشفت في الموقع. تعكس هذه القوانين مستوى متقدم من التنظيم الاجتماعي والتجاري، ما يدل على أن بناة تل أسمر لم يكونوا مجرد سكان بل حكام أصحاب مشروع حضاري واضح المعالم.

أزهى عصور مملكة أشنونا

شهدت مملكة أشنونا أوج ازدهارها خلال أوائل العصر البابلي القديم، أي ما بين 2000 إلى 1750 قبل الميلاد. في تلك الحقبة، توسعت أراضيها لتشمل معظم منطقة ديالى وأجزاء من منطقة دجلة الوسطى، ووصل نفوذها التجاري والسياسي إلى مناطق بعيدة داخل العراق القديم.

ADVERTISEMENT

تميز هذا العصر بالاستقرار السياسي والتوسع العمراني وازدهار الحياة الاقتصادية. كانت أشنونا مركزًا هامًا لتبادل السلع، وخاصة المعادن والأخشاب القادمة من إيران والأناضول، ما أكسبها مكانة استراتيجية. كما شهدت هذه الفترة نشاطًا ثقافيًا واسعًا تمثل في كتابة النصوص القانونية والأدبية والوثائق الإدارية، وهي محفوظة اليوم في أهم المتاحف العالمية.

نهاية ازدهار مملكة أشنونا جاءت مع توسع مملكة بابل بقيادة حمورابي، الذي قام بضم أشنونا إلى دولته بعد معركة حاسمة، منهياً بذلك استقلالها السياسي. إلا أن تراثها العلمي والإداري استمر بالتأثير في الحضارات اللاحقة.

الاكتشافات الأثرية وأهميتها

أعمال التنقيب في تل حرمل كشفت عن كنوز أثرية عديدة، من بينها آلاف الرقم الطينية، التي تعد من أغنى المجموعات المكتشفة في العراق. هذه الرقم تحمل أهمية كبيرة في فهم الحياة اليومية والإدارية والعلمية لسكان شادوبوم. من بين هذه الرقم، وثائق توضح أن المدينة كانت مركزًا لتسجيل الضرائب والعقود وتداول السلع.

ADVERTISEMENT

كما تم العثور على أدوات فخارية وزخارف تشير إلى التفاعل الثقافي مع مناطق أخرى. هذه المكتشفات تدل على وجود صناعة محلية متقدمة، ومهارة حرفية عالية في إنتاج الأدوات اليومية.

وتُحفظ العديد من هذه الرقم اليوم في المتحف العراقي ببغداد، حيث تُعرض للزوار وتستخدم في الأبحاث الأكاديمية. إن تل حرمل يعد اليوم أحد أهم مصادر المعلومات عن العصر البابلي القديم، ويشكل شاهدًا حيًا على الحضارة الرافدينية العريقة.

بواسطة : أسامة شكير محمد أمين - المصدر: ويكيبيديا

أهمية الحفاظ على الموقع وسبل تنشيط السياحة الثقافية

رغم القيمة الأثرية الكبيرة لتل حرمل، إلا أنه يواجه اليوم تحديات متعددة تتمثل في الإهمال والتمدن الزاحف حوله. إذ أن موقعه في قلب بغداد الجديدة يعرضه لمخاطر التوسع العمراني والعبث غير المنظم. لذلك، فإن الحفاظ عليه يتطلب جهودًا حكومية ومجتمعية متكاملة.

ADVERTISEMENT

يمكن للحكومة العراقية بالتعاون مع منظمات التراث العالمية أن تضع خطة للحفاظ على الموقع، تشمل ترميم المباني، وتطوير مركز للزوار، ووضع لوحات توضيحية بالموقع. كما يمكن إقامة أنشطة تعليمية ومهرجانات ثقافية للتعريف بتاريخ تل حرمل.

السياحة الثقافية يمكن أن تكون محركًا لتنمية محلية مستدامة في المنطقة، خاصة إذا تم دمج الموقع ضمن مسارات سياحية في بغداد تشمل المتحف العراقي، وسور بغداد العباسي، والمساجد التاريخية. إن تحويل تل حرمل إلى وجهة تعليمية وسياحية سيكون خطوة مهمة نحو إعادة إحياء الهوية التاريخية للعاصمة.

خاتمة

تل حرمل ليس مجرد تل أثري، بل هو سجل تاريخي حي لحضارة ازدهرت في قلب ما يعرف اليوم ببغداد. من خلال ما تم اكتشافه فيه من مبانٍ ومعابد ورقم طينية، يمكننا أن نرى صورة واضحة لحياة مدينة متقدمة علميًا وإداريًا وثقافيًا قبل آلاف السنين. إن تسليط الضوء على هذا الموقع وإعادة تأهيله سيسهم في تعزيز الوعي بالتراث الوطني، ويمنح الأجيال القادمة فرصة لاستكشاف واحدة من أقدم الحضارات في تاريخ الإنسانية.

أكثر المقالات

toTop