رحلة إلى بصرى: اكتشف أعظم مسرح روماني محفوظ وآثار جنوب سوريا

ADVERTISEMENT

تقع مدينة بصرى في جنوب سوريا بالقرب من الحدود الأردنية، وهي مدينة غنية بالتاريخ والتراث الثقافي العريق. كانت في الماضي عاصمة المقاطعة الرومانية "العربية"، وازدهرت كمحطة رئيسية على طرق التجارة القديمة، مثل طريق "فيّا ترايانا نوفا". اليوم، تُعد بصرى واحدة من أبرز المواقع الأثرية في سوريا، وتشتهر بآثارها الرومانية المحفوظة بشكل مذهل، خصوصًا مسرحها الكبير. شهدت المدينة تعاقب حضارات عديدة من الأنباط والرومان إلى البيزنطيين والدول الإسلامية، وكل منها ترك بصمته المعمارية والثقافية. بصرى ليست مجرد أثر روماني، بل متحف حيّ يروي آلاف السنين من التاريخ البشري والإيمان والابتكار.

تصوير دوسيمان - المصدر : ويكيبيديا

سبب تسمية بصرى بهذا الاسم

تعود تسمية "بصرى" إلى أصول قديمة غامضة، ويُعتقد أن الكلمة مشتقة من اللغة الآرامية أو النبطية، وقد تعني "الحصن" أو "القلعة" نظرًا لطبيعة المدينة الدفاعية وموقعها الإستراتيجي. كانت بصرى مركزًا تجاريًا وعسكريًا مهمًا في العصور القديمة، وقد ظهرت في العديد من النقوش والوثائق التاريخية تحت أسماء مختلفة مثل "بصرى فيليكس" أو "بصرى نبطية". وعندما أصبحت عاصمة للمقاطعة الرومانية العربية، احتفظت بالاسم ذاته، مما يعكس استمرارية هويتها عبر العصور. اسم "بصرى" ارتبط أيضًا بالحج الإسلامي، إذ كانت المدينة محطة بارزة على طريق الحجاج إلى مكة، مما منحها بعدًا دينيًا إضافيًا في الذاكرة الشعبية. تحمل التسمية طابعًا مكانيًا وزمنيًا يجمع بين الصلابة التاريخية والتنوع الثقافي، وهو ما ينعكس في الطابع الفريد للمدينة حتى اليوم.

ADVERTISEMENT

العصر الذهبي لمدينة بصرى

شهدت بصرى عصرها الذهبي في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حين أصبحت عاصمة لمقاطعة "العربية" في الإمبراطورية الرومانية. كانت المدينة مركزًا سياسيًا وعسكريًا وتجاريًا، حيث اجتمعت فيها عناصر القوة والازدهار. شُيّدت فيها المباني الكبرى مثل المسرح، والأسواق، والحمامات، والمباني الإدارية، وكلها دُعمت ببنية تحتية متطورة. تمركزت فيها جالية كبيرة من التجار والحرفيين من شتى أنحاء الإمبراطورية، مما جعل منها مدينة متعددة الثقافات. كما لعبت دورًا مهمًا في ربط سوريا بجنوب شبه الجزيرة العربية عبر طريق التجارة الصحراوي. امتد ازدهار بصرى إلى العصر البيزنطي، واستمرت كمركز ديني وثقافي هام، قبل أن تنتقل إلى الحقبة الإسلامية وتبدأ مرحلة جديدة من التأقلم والتطور. العصر الذهبي لبصرى ما زال حاضرًا في حجارة مبانيها، وفي هندسة معمارها الفريد، وشهادات المؤرخين الذين وصفوها بأنها "مدينة لا تشبه غيرها في الشرق".

ADVERTISEMENT

المسرح الروماني الكبير: موقع تراث عالمي لليونسكو

يُعد مسرح بصرى الروماني جوهرة المدينة وأحد أفضل المسارح الرومانية المحفوظة في العالم. بُني في القرن الثاني الميلادي في عهد الإمبراطور تراجان، وكان يتسع لحوالي 15,000 متفرج. يتميز المسرح باستخدام حجر البازلت الأسود المحلي، مما يمنحه طابعًا بصريًا فريدًا. حافظت عليه العصور الإسلامية عبر تحويله لاحقًا إلى قلعة دفاعية. لا تزال أجزاء كبيرة من خشبة المسرح والمدرجات والهياكل قائمة، مما يمنح الزائر إحساسًا حيًا بعظمة العمارة الرومانية. يُستخدم المسرح أحيانًا للعروض الفنية والمهرجانات، مما يوفر تجربة استثنائية. أُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويجسد عمق الجذور الثقافية السورية وأهميتها في العالم القديم.

الإمبراطور تراجان ودوره في تاريخ بصرى

يُعد الإمبراطور الروماني تراجان من أبرز الشخصيات التي أثّرت في تاريخ بصرى. خلال فترة حكمه (98–117م)، ضمّ الإمبراطورية النبطية إلى الإمبراطورية الرومانية، وجعل من بصرى عاصمةً لمقاطعة "العربية البترائية". كانت هذه الخطوة ذات طابع استراتيجي، حيث مثّلت بصرى بوابةً للسيطرة على الطرق التجارية المؤدية إلى الجزيرة العربية والخليج. بفضل تراجان، شهدت بصرى تطورًا عمرانيًا واقتصاديًا واسعًا، فشُيّدت فيها المعابد، والمدرجات، والحمامات العامة، وتم رصف شوارعها وتزويدها بنظام مائي متقدم. كما أُنشئ فيها المسرح الروماني الكبير، الذي لا يزال شاهدًا على تلك المرحلة المزدهرة. دعم تراجان لبصرى جعل منها نموذجًا للمدن الرومانية الشرقية المزدهرة، وكانت نقطة التقاء بين الحضارة الغربية والعربية، مما أكسبها طابعًا فريدًا في التاريخ الإقليمي للإمبراطورية.

ADVERTISEMENT
تصوير جاك حيدر - المصدر: ويكيبيديا

العمارة البازلتية السوداء في بصرى

من أبرز ما يميز بصرى بصريًا هو استخدام البازلت الأسود على نطاق واسع في البناء. هذا الحجر البركاني المحلي أضفى على المدينة طابعًا معماريًا جريئًا ومميزًا. استخدمه الرومان بذكاء في تصميماتهم الكلاسيكية، مازجين بين الصلابة والجمال. شوارع المدينة وجدرانها وأسوارها تكشف عن حضارة أتقنت استغلال مواردها الطبيعية. وحتى بعد العهد الروماني، استمر البيزنطيون والمسلمون باستخدام هذا الحجر في بناء المساجد والمدارس والخانات، مما خلق تماسكًا بصريًا وتاريخيًا بين مختلف العصور. المشي في بصرى أشبه بالتنقل على لوحة تاريخية بالأبيض والأسود، حيث يتباين لون الحجر الداكن مع السماء الزرقاء وأشعة الشمس المشرقة.

بصرى... بين الماضي والحاضر

تجسد مدينة بصرى توازنًا فريدًا بين التاريخ العريق والواقع المعاصر، فهي ليست فقط مدينة أطلال وآثار، بل موطن حي يسكنه الناس وتنبض فيه الحياة اليومية. في حين تروي حجارة بصرى السوداء حكايات الرومان، والبيزنطيين، والعرب المسلمين، فإن حاضرها يُظهر قدرة المجتمعات السورية على التعايش مع التراث والحفاظ عليه. لا تزال بعض البيوت مأهولة في الأحياء القريبة من المسرح الروماني، ويقيم السكان حياتهم بين الجدران التي شهدت أعظم لحظات المجد الحضاري في التاريخ. رغم التحديات والصراعات التي مرت بها المنطقة، ظلّ أهل بصرى محافظين على مدينتهم، ويسعون لإحياء مهرجاناتها الثقافية وتعزيز السياحة فيها. اليوم، تُعتبر بصرى رمزًا للصمود والترابط بين الماضي والحاضر، حيث يستطيع الزائر أن يلمس التاريخ تحت قدميه، ويستمع إلى نبض الحاضر في ضحكات الأطفال، وأصوات الأذان، وعبق القهوة السورية في الأسواق. إنها مدينة تعيش زمنين... وتحتضنهما معًا.

ADVERTISEMENT

التأثيرات المسيحية والإسلامية في تاريخ بصرى

بصرى ليست فقط مدينة رومانية بل أيضًا مركز ديني هام شهد تلاقي الأديان. خلال الحقبة البيزنطية، أصبحت المدينة مركزًا مسيحيًا بارزًا، وبُنيت فيها كنائس عديدة أبرزها كاتدرائية بصرى، التي تُعد من أوائل الكنائس المقببة في التاريخ. ومع انتشار الإسلام في القرن السابع، تحولت بصرى إلى مركز إسلامي مهم. بُنيت فيها المساجد والخانات والمدارس، ومن أبرز معالمها جامع عمر بن الخطاب، أحد أقدم المساجد الباقية. هذا التداخل بين المعالم الرومانية والمسيحية والإسلامية يُجسّد تعددية المدينة ويعكس عمقها الثقافي والديني، ويجعل منها وجهة سياحية فريدة لعشاق التاريخ والتنوع الحضاري.

اكتشاف الشوارع القديمة والخانات

يمنحك التجول في شوارع بصرى القديمة شعورًا بالعودة إلى الزمن الغابر. تُقودك الطرق المرصوفة بالحجارة إلى الحمامات العامة والمعابد والأسواق القديمة. تُصادف الزائر خانات تاريخية كانت تستقبل الحجاج والتجار، ما يعكس الدور التجاري الكبير للمدينة على طرق التجارة التي كانت تربط الجزيرة العربية بالبحر الأبيض المتوسط. ومن المعالم الأخرى، بقايا نظام مياه متطور يشمل خزانات وقنوات كانت تضمن تزويد المدينة بالماء في بيئتها الجافة. تُظهر هذه البُنى التحتية مدى تطور التخطيط العمراني في العصور القديمة. زيارة بصرى تُعد تجربة حسية وتاريخية متكاملة تسلط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية في الحضارات القديمة.

ADVERTISEMENT
تصوير هيريتيك - المصدر: ويكيبيديا

كيفية الوصول إلى بصرى وماذا تتوقع اليوم

تبعد بصرى حوالي 140 كيلومترًا جنوب دمشق، وتستغرق الرحلة إليها قرابة ساعتين ونصف بالسيارة. الطريق يمر عبر مناظر ريفية جميلة وبلدات صغيرة تمنح لمحة عن الحياة الريفية السورية. رغم تضرر المدينة خلال النزاعات الأخيرة، إلا أن العديد من معالمها، خصوصًا المسرح، لا تزال قائمة ومفتوحة للزوار. تشهد المدينة جهود ترميم متواصلة، والسياحة تعود تدريجيًا. تتوفر مرافق أساسية، ويمكن الإقامة في المدن المجاورة مثل درعا أو دمشق. يُنصح بارتداء أحذية مريحة وحماية من الشمس، واستئجار دليل محلي للاستفادة القصوى من الزيارة. تجربة بصرى اليوم ليست فقط زيارة أثرية، بل رحلة إلى قلب الإرث الحضاري السوري.

المهرجانات والفعاليات الثقافية في بصرى

رغم الصعوبات التي واجهتها، تواصل بصرى الاحتفاء بتراثها الثقافي من خلال تنظيم المهرجانات والفعاليات، متى ما توفرت الظروف. من أبرز هذه الفعاليات مهرجان "بصرى الدولي"، الذي يُقام في المسرح الروماني ويستقطب فنانين وموسيقيين من سوريا والعالم العربي. يُحوّل المهرجان المسرح إلى مسرح حي ينبض بالإبداع وسط أطلال الحضارات القديمة، ما يمنح الزوار تجربة فنية لا تُنسى. يُجسد المهرجان التقاء الماضي بالحاضر، ويؤكد على أن بصرى لا تزال مدينة حية بثقافتها وفنونها. هذه الفعاليات تُظهر صمود المجتمع المحلي، وحرصه على نقل تراث المدينة للأجيال القادمة من خلال الفن والموسيقى والمسرح.

ADVERTISEMENT
تصوير دوسيمان - المصدر : ويكيبيديا

أفضل أوقات الزيارة ونصائح السفر

أفضل وقت لزيارة بصرى هو خلال فصل الربيع (من مارس إلى مايو) أو أوائل الخريف (من سبتمبر إلى أكتوبر)، حيث تكون الأجواء معتدلة والمناظر الطبيعية خضراء. أما الصيف، فيُعد حارًا جدًا، خاصة عند استكشاف المواقع المفتوحة، فيما تكون الليالي باردة في الشتاء. يُنصح بارتداء أحذية مريحة، وجلب واقٍ شمسي وقبعة، إذ أن معظم المعالم مكشوفة. من الأفضل اصطحاب دليل محلي للاستفادة من شرح دقيق لتاريخ كل معلم. الإقامة محدودة في بصرى، ولكن تتوفر خيارات جيدة في المدن القريبة. عشاق التصوير سيجدون في المدينة فرصًا رائعة لالتقاط صور فريدة خصوصًا خلال ساعات الغروب بفضل تدرجات اللون البازلتي الفريدة.

أكثر المقالات

toTop