مدينة طرابلس الليبية في عيون الرحالة العرب والأجانب
مدينة طرابلس هي عاصمة ليبيا وهي مدينة ساحلية تطل علي ساحل البحر المتوسط وتقع في شمال قارة أفريقيا. موقع مدينة طرابلس الليبية جعلها الاختيار الأمثل لتكون مدينة تجارية تربط دول قارة أوربا بالدول الأفريقية. كانت مدينة طرابلس من مهدها محطة تمر بها السفن والبضائع من أفريقيا لأوروبا والعكس لذا لك أن تتخيل اعتياد أهل المدينة على زيارة الرحالة والتجار ومختلف الزائرين.
نشأت مدينة طرابلس الليبية في زمن الفينيقيين وسموها باسم تريبولي وهي كلمة تعني المدن الثلاثة وكذلك سميت باسم أويا. لذلك فأن أقدم أثار تلك المدينة تعود لعهد المؤسسيين الفينيقيين. انتقلت بعدها المدينة للعهد الروماني لذا لا يمر رحالة بالمدينة دون أن يلحظ قوس ماركوس أوريليوس نسبة للإمبراطور الروماني. مرت المدينة بحكم الوندال وهم قبائل أوروبية مسيحية أنشقت عن الكنيسة الأم ويتبعون الأريوسية وقد استقروا بالمدينة بعد هربهم من أوروبا. تلي الوندال الحكم البيزنطي ثم الفتح الإسلامي. قطع حكم الإسلاميين فترات منها حكم الصقليين ثم الاحتلال الإسباني لعشرين عاما وبعدها احتلال فرسان القديس يوحنا من مالطا لعشرين عاما أخري. لجأ الطرابلسيون للدولة العثمانية لتخليصهم من المحتلين لتعود طرابلس الليبية تحت الحكم الإسلامي ولكن كجزء من الحكم العثماني. من توالي هجمات لبلاد مختلفة على طرابلس يمكنك أن تتخيل ما كانت عليه المدينة في العصور المختلفة. لا يغيب عن الرحالة أثار الدمار بالمدينة عبر العصور إلا أن عيون الرحالة تري أيضا بانوراما لحقب تاريخية وتراثية فينيقية ورومانية وإسلامية وإسبانية. في هذه البانوراما تمتزج حضارات عدة لتكون نسيج إنساني يثري خيال أي رحالة شغوف بحضارات الشعوب وعاداتها وفنونها.
مدينة طرابلس الليبية ساحرة عن بعد ولكن ركام وحطام من الداخل
رحالة القرن ال 18 رأوا طرابلس الليبية كمدينة ساحرة عند رؤيتها من البحر لكن عند اقتراب سفنهم من الساحل سرعان ما صدموا عند دخول المدينة وترأى لهم تداعي الأسوار والركام وانهيار المدينة اقتصاديا. أحد هؤلاء كان آغسطينو بلاتو وقد كان قنصل البندقية في طرابلس وكذلك الرحالة الألمان هاينريش بإرث وغوستاف نختغال كلاهما زارا المدينة في القرن التاسع عشر.
في عيونهم كانت مدينة طرابلس الليبية مدينة بيضاء بأسوار ومآذن عالية ويتخللها جذوع النخيل، منظر براق عن بعد سرعان ما يتلاشى عند رؤية المدينة من الداخل وقذارة حواريها وأثار الدمار في مبانيها الأثرية العتيقة. غيرهم الكثير من الرحالة الذين أحبوا البيوت البيضاء وساحل طرابلس ولكن أشفقوا على أثار ا الإهمال في جوانبها.
مدينة طرابلس الليبية وعادات بيوتها
ميس توللى الإنجليزية والتي أقامت في مدينة طرابلس الليبية لمدة عشر سنوات خلال القرن الثامن عشر قامت بتوثيق تجربتها بسبب أسفار زوجها المتعددة وتنوع تجاربها في بلاد عديدة. لم تلتفت ميس توللى لحطام المدينة وإنما بعيون مسافرة اهتمت بعادات شعب مدينة طرابلس. لفت نظر ميس توللى وجود حجرة مفردة بداخل بيوت طرابلس وكانت تسمي "الغرفة" أو "العلية" وكانت مخصصة لرب الأسرة فقط ولا يسمح لأي فرد من الأسرة دخولها دون إذن منه. احتوت الغرفة على خزانة خاصة برب الأسرة وتستعمل الغرفة في عمله وهو ما يشبه استعمال غرفة المكتب في وقتنا هذا إلا أن استعمال الغرفة لم يقتصر على هذا بل كانت أيضا تستعمل في سهرات ولهو رب الأسرة حيث يدعو لها أصدقاؤه. وما لاحظته ميس توللى أن السيدة في طرابلس تتمتع بنفس الحق مساوية للرجل حيث يمكنها دعوة صديقاتها أو النساء من أفراد أسرتها لتجاذب أطراف الحديث بشكل خاص في حجرتها وتترك الزائرة البابوج (الحذاء) الخاص بها خارج الغرفة ليعرف رب الأسرة بوجود زائرة وبالتالي يمتنع عن دخول الغرفة.
لم يفوت عيون ميس توللى ما حظيت به الحمامات بمدينة طرابلس الليبية من اهتمام كبير من النساء. تقضي النساء مع جواريهن ساعات طويلة بداخل الحمامات يمكن أن تمتد للنهار كله. تقوم خلالها الجواري بغسل شعور سيداتهم بماء زهر البرتقال أو تضفير الشعر بضفائر صغيرة مما يستغرق ساعات وكذلك صبغ الرموش وتكحيل العيون.
البازارات والمقاهي نشاط أساسي للعديد من الأفراد في مدينة طرابلس الليبية
لاحظ معظم الرحالة بازارات (أسواق) الشارع في طرابلس ولاحظوا بصفة خاصة تردد الأتراك لمقاهي الأسواق يوميا ليتحدثوا عن الأخبار اليومية ويشربون القهوة، إلا أنهم لاحظوا أنه عندما يرتاد الوجهاء الأسواق فأنهم لا يدخلون للأسواق بأنفسهم وإنما ينتظرون في أماكن انتظار في الساحة حيث مقاعد رخامية مظللة بالعرائش الخضراء، بينما يرسلون خدمهم لشراء القهوة وكل ما يحتاجونه. فظهر التسوق من أسواق الشارع والجلوس بالمقهى كأنشطة تخص طبقة اجتماعية بعينها وليست نشاطا يمارسه الوجهاء والأغنياء إلا أن ذلك ينتمي بصفه خاصة لحقبة القرن التاسع عشر وهو ما تبدل تماما في وقتنا هذا.
سكان طرابلس الليبية السود وماضي تجارة العبيد
ليس غريبا على عيون أي رحالة أو زائر منظر الطرابلسيين السود ببشرة قاتمة من سلالة الأفارقة الذين تم استغلالهم في السابق أثناء تجارة العبيد، والتي كانت رائجة جدا في الماضي. موقع مدينة طرابلس الليبية علي ساحل البحر الأبيض بين الدول الأفريقية مصدر العبيد في الماضي والدول الأوروبية المستوردة للعبيد حينها، جعلها سوقا يشتري ويباع فيه العبيد لسنوات عديدة حتى بعد تحريم تجارة العبيد في القرن التاسع عشر.
بعد تحرير العبيد وانتهاء هذه التجارة قرر الكثير منهم الاستقرار في طرابلس التي لا يعرفون سواها وطنا. الرحالة الألماني إفالد بانزه زار طرابلس 3 مرات في بدايات القرن ال 20 ولاحظ أن السود (قاتموا السواد على حد تعبيره) يمثلون نسبة كبيرة جدا لا يستهان بها من سكان طرابلس وقد جاء الكثير منهم أو آباؤهم وأجدادهم من السودان كعبيد ثم عتقوا وتزوجوا وأنجبوا أبناءهم في أحضان مدينة طرابلس. وقد لاحظ بانزه أن معظمهم يعيش في أكواخ على أطراف المدينة على شكل قباب شيدت من القصب ويعملون في أعمال مجهدة مثل بناء البيوت أو تفريغ وشحن السفن وهي أعمال معظمها شاق وأجرها متواضع.
مدينة طرابلس الليبية نقطة وصل تجارية بين أوربا وأفريقيا
اهتمت مابل تود زوجة رئيس البعثة الأمريكية والتي أقامت في طرابلس لمدة 5 أعوام بالوجه التجاري للمدينة وقد لاحظت تود أن البضائع الأوروبية يتم تخزينها في طرابلس والبضائع الأفريقية تنتظر نقلها عبر البحر إلي أوربا. يمكنك أن تتخيل طرابلس كمخزن كبير للبضائع ومعبر لسفرها. سجلت تود ملاحظتها عن بعض البضائع التي لاحظت تداولها مثل ريش النعام وأنياب الأفيال والجلود والذهب آتيه بقوافل كبيرة من إفريقيا ليتم مقايضتهم بالبضائع الأوروبية مثل أقمشة مانشستر وأواني فينيسيا الزجاجية الشهيرة وبضائع جنوب فرنسا.
مدينة طرابلس الليبية أرض متعددة الديانات
توالي الهجمات والاستعمار القادم من ثقافات وديانات أخرى على المدينة أدى إلى وجود مذاهب دينية مختلفة على مر تاريخ تلك المدينة. الرحالة الإيطالي غوستانيو روسي ألتفت للاختلاف الكبير بين بيوت اليهود والعرب في طرابلس. دون روسي هذا الاختلاف في بيوت عربية ذات طابع فني وأبوابها مغلقة دائما مما يوحي بالغموض وكأن خلف أبوابها أسرار لن يتم الكشف عنها حتى أن شبابيكها تفتح للداخل مما يستحيل معه رؤية ما بالداخل. علي الجانب الأخر لاحظ روسي بيوت اليهود بأبواب مفتوحة حتى أن السائح يمكنه أن يدخل ويشاهد الداخل. شعر روسي في زيارته لطرابلس بالتسامح الديني بين المسيحيين والمسلمين، فقد رأي المسيحيين يمارسون طقوسهم داخل الكنيسة وخارجها أيضا دون مضايقات. ألا أنه لاحظ أن اليهودي لا يأكل في بيتا مسيحيا أو مسلما إلا أنه يدعوهم للأكل في بيته ولكنه يقوم بكسر كل الأواني المستخدمة من قبلهم بعد رحيلهم ولا يعيد استعمال أيا منها وذلك احتراما لعقيدته.
مدينة طرابلس في عيون رحالة وبلوجرز العصر الحديث
لا شك أنك تتسأل لقد مر وقت طويل علي الرحالة القدامى وها نحن في القرن الواحد والعشرين فكيف يري رحالة يومنا هذا مدينة طرابلس الليبية؟ أنتشر في الفترة الأخيرة توثيق الرحالة في العصر الحديث لرحلاتهم عن طريق المدونات والفيديوهات وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي.
البلوجر والرحالة الليبي محمد السليني يري إنه لا يمكنك أن تفهم قيمة مدينة طرابلس وتتمتع بزيارتها دون أن تمر بأجزاء المدينة القديمة مارا بجامع سيدي عبد الوهاب أقدم جوامع طرابلس. يدعوك السليني لجولة تتمتع فيها بالفنون القديمة والتقليدية بالمدينة بصفة خاصة أثناء المناسبات والأعراس والأعياد. السليني يعدك بأنه أن ضاع أحد منك أثناء تجوالك بالمدينة فأنك حتما ستلتقي به عند نقطة ملتقي الأربع أرسات وأهمهم التقاطع المحوري بين ال4 حارات الرئيسية للمدينة القديمة. والذين يوصلوا لباب الحرية (الباب الجديد) والكنيسة.
سوف تري جامع الناقة وقد بني بما تم تقديمه كهدية من الفاطميين الذين زاروا المدينة قديما ولسعادتهم بحسن ضيافة واستقبال مدينة طرابلس لهم قدموا ناقة محملة كهدية لمدينة طرابلس وبقيمة حمولة الناقة بني الجامع وهذا هو سبب تسميته. تكلم السليني أيضا عن وجود المسيحيين واليهود بالمدينة ألا أنه تم طرد اليهود في الستينيات والسبعينيات على خلفية أحداث فلسطين وبداية احتلالها. إلا أن المعبد اليهودي الضخم في أعلاه نجمة داود لا يزال يقف شامخ حتى الآن ليشهد عن عهد عاش فيه اليهود أمنين في تلك المدينة وتركوا إرثا يشهد عنهم. ويمكنك عند النظر للمعبد رؤية الوصايا العشر مكتوبة بالعبرية.
يمكن للرحالة أيضا رؤية زنقة الأسبان والتي تقع بها كنيسة السيدة مريم والتي تعود للقرن السابع عشر إلى جوار مصرف روما ودار كريستا "الكنيسة اليونانية" وهى كلها من المعالم الأثرية المهمة بالمنطقة وتمثل الأرث والشاهد علي وجود المسيحيين بالمدينة.
يقول السليني أن الرحالة الباحث عن المعالم الثقافية في مدينة طرابلس الليبية يمكنه زيارة بيت أسكندر وهو بيت ثقافي تقليدي بالحي الأوروبي. بيت أسكندر يحتوي على تحف وأنتيكات ولوحات من تونس والعراق والجزائر وليبيا، ويعد البيت منارة للثقافة والفنون في المدينة وبالإضافة للأعمال الفنية يمكن لزائره أن يشاهد أثاث يعود لعصور الاحتلال بالمدينة. يمكن للرحالة أيضا رؤية برج أبوليلة وهو كان برجا للمراقبة قديما لحماية المدينة من الهجمات القادمة من البحر وقد تحول لوجهة للسباحين لأطلاله على الساحل وتوجد بالقرب من البرج نقطه يقفز منها السباحون والغواصون لمياه البحر المتوسط في وقتنا هذا.
الرحالة العرب والأجانب رأوا مدينة طرابلس الليبية كلا من وجهة نظره، بعضهم ألتفت لجمالها وتألقها في أشعة الشمس وبيوتها البيضاء إلى جوار خيراتها من خضر وفواكه وزيتون وتين وزبيب وتمر مع جمال عمارتها، مثل الرحالة الألماني نختغال وابن سعيد الليبي وغيرهم من أنبهر بشاطئها وعمارة مآذنها وتنوع مراكبها مثل الرحالة الإيطالي مانفريد وكذلك كامبيرو صاحب مجلة المكتشف. أخرين انبهروا بترحاب أهلها وحسن ضيافتهم مثل البكري. وغيرهم من نظروا لحطام أسوارها إلا أنهم ألتفتوا أيضا لعاداتها وطباع أهلها، وغيرهم من انبهروا بالتناغم بين سكانها مختلفي الجنس واللون والدين إلا أن جميع الرحالة كل بطريقته وجد الطريق إلي تقدير المدينة وإرثها وما تضيفه لكل رحالة يتمني أن ينغمس في تجربة فريدة ومن المؤكد أن ألوفا غيرهم قد زاروا المدينة ورأوها بعيونهم حتي وإن لم يوثقوا تجربتهم.