أسطورة الأنوناكي في التراث العراقي

الأنوناكي بين الواقع والخيال في التراث العراقيّ لا يخفى على عشاق التاريخ مدى عمق وثراء التراث العراقيّ وتعدّد حضاراته على مرّ تاريخه الضارب في القدم، سنعود في هذه المقالة 5000 سنةٍ إلى الماضي .. إلى صفحة من صفحات التراث العراقيّ المنسيّة، ونسبح في عالمٍ من الأفكار التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال لتثير عاصفةً من التساؤلات داخل العقول. سنتحدّث اليوم عن ... الأنوناكي.

الأنوناكي بين الواقع والخيال في التراث العراقيّ

لا يخفى على عشاق التاريخ مدى عمق وثراء التراث العراقيّ وتعدّد حضاراته على مرّ تاريخه الضارب في القدم، سنعود في هذه المقالة 5000 سنةٍ إلى الماضي .. إلى صفحة من صفحات التراث العراقيّ المنسيّة، ونسبح في عالمٍ من الأفكار التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال لتثير عاصفةً من التساؤلات داخل العقول. سنتحدّث اليوم عن ... الأنوناكي.

من هم الأنوناكي؟

الأنوناكي هم مجموعةٌ من الآلهة التي ورد ذكرها في بعض الكتابات العراقية القديمة من العصور السومريّة والأكاديّة والأشوريّة والبابلية التي عاشت بأرض العراق قديمًا، وينتمون إلى مجموعةٍ يطلق عليها اسم آلهة "البانثيون" السومريّة، وهي مجموعة آلهةٍ ترتبط مع بعضها بأحداثٍ تاريخيّةٍ وطقوسٍ معيّنةٍ، كما أنهم يُعرّفون بأنهم أبناء إله السماء " آنو" وإلهة الأرض "كي"، وتعني حرفيًّا: أبناء أو أتباع الإله "آنو" وتعني أيضًا: أبناء السلالة الملكيّة من الإله "آنو"، ويقال أنهم الجيل الأوّل من الآلهة التي تمّ نفيها وهزيمتها من قبل الآلهة الصغار. تمّ ذكر مصطلح الأنوناكي لأوّل مرّةٍ في النقوش المكتوبة في عهد أحد أشهر الملوك السومريّين القدماء، الملك "غوديا" الذي حكم العراق بين عامي 2144 ق.م و 2124 ق.م في زمن الأسرة الثالثة في مدينة "أور". وصفت النصوص السومريّة الأولى الأنوناكي بأنهم أقوى وأهم الآلهة في "البانثيون" السومريّ، وشمل الأنوناكي الآلهة السبعة الذين يقرّرون وهم: "آن" و "إنليل" و "إنكي" و "نينهورساغ" و "نانّا" و "أوتو" و"إنانّا".

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

كم عدد الأنوناكي؟

الصورة عبر DangrafArt على pixabay

تذكر بعض نصوص التراث العراقيّ السومريّ أن الأنوناكي هم الآلهة السبعة الذين يقرّرون مصير البشر على الأرض، وهم يجلسون أمام عرش إلهة العالم السفلي "إريشكيجال" ليحكموا على الموتى، وتمّ اعتبارهم اثني عشر إلهًا في عصر الحيثيّين من بعدهم، وورد ذكر العديد من الأنوناكي الآخرين خارج العالم السفليّ في نصوصٍ تراثيّةٍ أخرى، لكن على الرغم من وصف بعض الآلهة الأخرى بأنهم أعضاءٌ في الأنوناكي، إلا أنّه لم يتم حصر أسماء جميع الأنوناكي حتّى الآن، وعادةً ما يشار إليها متناثرةً في بعض نصوص التراث العراقي الأدبيّة. علاوةً على ذلك، تصف النصوص السومريّة الأنوناكي بشكلٍ شبه عشوائيٍّ ولا تتّفق على مجموع عدد الأنوناكي الكلّيّ، لكن يبدو لنا أن الأنوناكي تم تعريفهم على أنهم آلهةٌ سماويّةٌ ذات قوى هائلةٍ كما ذكر في قصيدة "إنكي والنظام العالميّ" الذي أشار فيها إلى أن الأنوناكي كرّموا "إنكي"، وغنّوا ترانيم الثناء على شرفه، و تنصّ نفس القصيدة مرّتين على أن الأنوناكي "يقرّرون مصير البشريّة".

أطيب التمنيات

الأنوناكي حسب المعتقد السومريّ

"إنانّا" أو "نينا" إحدى الأنوناكي المشهورات في التاريخ العراقيّ السومريّ

كان يُنظر إلى كل إلهٍ رئيسيٍّ في البانثيون السومريّ تقريبًا على أنّه يحمي مدينةً معيّنةً، لذا انتظر منه الشعب أن يحمي مصالح تلك المدينة، وكان لكل إلهٍ منهم هيكلًا يقيم فيه بشكلٍ دائمٍ داخل كل مدينةٍ، كما تذكر النصوص أن مدينة "إريدو" مثلًا يسكنها خمسين من الأنوناكي. أمّا في مدينة "إنلد" التي توجد في العالم السفلي حسب المعتقد السومري، فيوجد بها سبعةٌ من الأنوناكي يعملون كقضاةٍ، حيث تمّت محاكمة "إنانا" أمامهم عقابًا لها على محاولة الاستيلاء على العالم السفليّ ، وتمّ اتّهامها بالغطرسة وحُكِم عليها بالإعدام.

الأنوناكي في التاريخ الأكاديّ والبابليّ

تصّور الأكاديّين عن الأنوناكي في عام 2300 ق.م

"من يخشى الأنوناكي .. يمدّ عمره"

هذه قطعة من ترنيمةٍ بابليّةٍ قديمةٍ تشير إلى تقديس البابليّين القدماء للأنوناكي، كما ترسم النصوص الأكاديّة في 1531 ق.م صورًا للأنوناكي "إنانّا" وهي تنزل إلى العالم السفليّ، وتصوّر بقيّة الأنوناكي على أنّهم آلهة العالم السفلي. في قصيدةٍ أكاديّةٍ مختصرةٍ مكتوبةٍ في أوائل الألفية الثانية عن الأنوناكي "إنانّا"، علّقت "إريشكيغال" ملكة العالم السفليّ بأنها تشرب الماء مع الأنوناكي، وفي وقتٍ لاحقٍ في نفس القصيدة، أمرت "إريشكيغال" الخادم المدعو "نامتار" بجلب الأنوناكي من مدينة "إيغالجينا" كما أمرت الخدم بتزيين عتبات سلم العرش بالشعب المرجانيّة الملوّنة.

الأنوناكي وعلاقتهم بالفضاء

نحت من العصر الحيثي يظهر 12 أنوناكي كآلهة العالم السفلي في بلاد الرافدين

ارتبطت الآلهة الرئيسيّة في الأساطير السومريّة بأجرامٍ سماويّةٍ محددّةٍ، وكان يعتقد أن "إنانا" هي كوكب الزهرة، كما كان يعتقد أن "أوتو" هي الشمس و "نانّا" هي القمر. تمّت نسبة كل مجموعةٍ من المدارات أو النجوم إلى أنوناكي معيّنٍ، فنُسب "آنو" إلى السماء الاستوائيّة ونُسب "إنليل" إلى السماء الشماليّة و"إنكي" إلى السماء الجنوبيّة، وكان مسار مدار "إنليل" السماويّ مستمرًّا كدائرةٍ متماثلةٍ حول القطب السماويّ الشماليّ، ولكن يعتقد أن دائرتي "آنو" و"إنكي" تتقاطعان في نقاطٍ مختلفةٍ.

عبادة الأنوناكي في بلاد ما بين النهرين

الصورة عبر mzmatuszewski0 على pixabay

اعتقدت شعوب بلاد ما بين النهرين القديمة أن آلهتهم تعيش في السماء، وأنهم قاموا بزيارة الأرض عدّة مراتٍ كما ذكر في النصوص التراثية العراقية القديمة، وأنّ تمثال الإله كان تجسيدًا ماديًّا للإله نفسه. على هذا النحو، حظيت تماثيل العبادة في القدم في العراق برعايةٍ واهتمامٍ مستمرّين وتم تعيين مجموعةٍ من الكهنة لرعايتها. كان هؤلاء الكهنة يلبسون التماثيل ويقيمون المأدبات أمام تماثيل آلهتهم. يُعتقد أن معبد الإله هو مكان الإقامة الحرفيّ لذلك الإله، وكان لدى الآلهة قوارب وصنادل كاملة الحجم مخزنةً عادةً داخل معابد العراق القديمة، وكانت تستخدم لنقل تماثيل آلهتهم على طول الممرّات المائيّة خلال مختلف المهرجانات الدينيّة. كان لدى الآلهة أيضًا عرباتٍ تُستخدَم للنقل في بعض الأحيان حيث يتم نقل تمثال عبادة الإله إلى موقع المعركة حتى يتمكن الإله من مشاهدة المعركة، حيث كان يُعتقد أن الآلهة الرئيسيّة لبلاد ما بين النهرين، والتي تضمنت الأنوناكي، تشارك في "تجمّع الآلهة"، التي اتخذت من خلالها الآلهة جميع قراراتها. كان يُنظر إلى هذا التجمّع على أنّه نظيرٌ إلهيٌّ للنظام التشريعيّ شبه الديموقراطيّ الذي كان موجودًا خلال عهد الأسرة الثالثة في أور (2112 ق.م - 2004 ق.م).

الأنوناكي في عالم الواقع

الصورة عبر dlsdkcgl على pixabay

تمّ ذكر الأنوناكي بشكلٍ رئيسيٍّ في نصوص التراث العراقيّ الأدبيّة، ولم يتم اكتشاف سوى القليل جدًّا من الأدلّة التي يمكن أن تثبت حقيقة وجود أيّة طائفةٍ منهم، ونقول طائفةً لأن كل عضوٍ من الأنوناكي كانت لديه طائفته الفرديّة، وبالمثل، لم تكتشف حتى الآن أيّة بياناتٍ عن أنوناكي كمجموعةٍ كاملةٍ، على الرّغم من تحديد بعض الصور لاثنين أو ثلاثة أعضاءٍ فرديّين معًا. كانت الآلهة في بلاد ما بين النهرين القديمة مجسّمةً بشكلٍ فرديٍّ في معظم الأحيان، وكان يُعتقد أنها تمتلك قوًى غير عاديّةٍ وغالبًا ما كان يُنظر إليها على أنها ذات حجمٍ ماديٍّ هائلٍ. كانت الآلهة ترتدي "الميلام" عادةً، وهي مادةٌ غامضةٌ ومخيفةٌ تغطّي أجساد الانوناكي، كما يمكن أن يرتدي "الميلام" أيضًا الأبطال والملوك والعمالقة وحتى الشياطين. يسمى تأثير رؤية الإنسان لـ"الميلام" بوصف "ني"، وتعني الوخز الجسديّ. كانت الآلهة تصوّر دائمًا وهي ترتدي قبّعاتٍ ذات قرنين، تتكوّن من سبعة أزواجٍ متراكبةٍ من قرون الثيران، كما تمّ تصويرها أحيانًا وهي ترتدي ملابس بها زينةٌ ذهبيّةٌ وفضيّةٌ متقنةٌ مخيطةٌ فيها.

سرّ اهتمام الأوروبّيّين بالأنوناكي

غلاف كتاب "الأدلّة التاريخيّة على وجود الأنوناكي" للكاتب التركي "شفق جوكتورك"

في عام 2018م، أشار الكاتب التركيّ "شفق جوكتورك" في كتابه المكتوب باللغة الإنجليزية بعنوان: " الأدلّة التاريخيّة على وجود الأنوناكي" إلى بعض الأدلّة التي تدعم حقيقة تواجد الأنوناكي على أرض العراق، وقام بجمع تلك الأدلّة في كتابه، وأثار الكثير من التساؤلات عن الاهتمام الشديد من قبل العلماء الأوروبّيّين بكل ما يتعلّق بالأنوناكي. استنتج الكاتب حقيقة وجود الأنوناكي بعد سرد أدلّته، وأشار إلى سرّ القفزة العلميّة الهائلة التي حدثت في العقود الأخيرة من عمر البشريّة في محاولةٍ منه لإثبات أن الأنوناكي هم أصحاب ذلك العلم وأن الأوربّيّين قد أعادوا اكتشاف ذلك العلم من خلال دراستهم لآثار الأنوناكي معتمدًا في إثباته على بعض الألواح الأثريّة القديمة المدوَّنة بالخطّ المسماريّ، والتي تتحدّث حسب قوله عن مجيء الأنوناكي من كوكب "نيبيرو" الذي يقع على أطراف مجموعتنا الشمسية وكونهم كائناتٍ فضائيّةً متطوّرةً وليسوا آلهةً خرافيّةً كما صوّرهم العلماء الأوربّيّون، واستند أيضًا في استنتاجاته إلى بعض الآيات القرآنية وبعض المصادر التوراتية والإنجيليّة، وأعاد صياغة بعض المقولات الأثرية لمشاهير المؤرّخين أمثال "هيرودوت" و"بيريسوس". ويعتبر الكاتب من مشاهير الكتّاب الأتراك الذين لهم باعٌ في تاريخ الحضارات القديمة وله العديد من المحاضرات بخصوص الأنوناكي، كما أنّه خصّص كتابًا آخر سمّاه " الإلهة إنانّا"، وهي إحدى الأنوناكي المعروفة بتمرّدها، ولها قصّةٌ مثيرةٌ انتهت بإعدامها على أيدي الأنوناكي الآخرين.

الأنوناكي ونظرية المؤامرة

غلاف كتاب "الكوكب الثاني عشر" للكاتب زكريا سيتشن الذي تحدث فيه عن الأنوناكي ككائناتٍ فضائيّة

لم يكن الكاتب " شفق" أوّل من تكلّم بخصوص نظريّة المؤامرة حول حقيقة الأنوناكي، بل سبقه الكثيرون في هذا الأمر من أمثال "إيريك فون دينيكن" الذي ألّف كتابًا بعنوان: "عربات الآلهة" عام 1968م ليطرح نفس الأطروحة، كما كتب أيضاً "زكريّا سيتشن" كتاب أسماه "الكوكب الثاني عشر" كمحاولةٍ لإثبات نظريّة مجيء الأنوناكي من كوكب "نيبيرو"، وألّف "ديفيد آيك" وغيره كتبًا مماثلةً فنّدوا فيها أدلّةً وبراهين لإثبات حقيقة وجود الأنوناكي وأنهم ليسو من البشر. ويظلّ أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة فيما يخصّ الأنوناكي هم أهل العراق، فهم أدرى بتاريخهم من غيرهم، ولعلّهم يحسمون الخلاف بكتبٍ تؤرخ لهذه المرحلة بشكلٍ علميٍّ ليظهر للعالم حقيقة الأنوناكي بغض النظر عن ماهيّتهم فالعراق تظلّ أرضها صاحبة أعظم الحضارات على مرّ التاريخ سواء كان الأنوناكي من وحي الخيال أم كانوا بشراً أو حتى كائناتٍ فضائيّة.

المزيد من المقالات